حفَروا قلْب الجبل كُرمى لريشةِ الرسام

الجبل في بهجة الربيع

هنري زغيب*

لا أَعرف مدى اهتمام الدُوَل العربية بالبيئة وتدابيرها حيال الكسَّارات، خصوصًا في المناطق الجبلية. لكنني أَعرف أَن البيئة في لبنان ثانويةٌ لدى أَهل السياسة. ومن فَوَاجعها إِشاحةُ الدولة عن إِجرام الكسَّارات التي تقضُم جبالنا الخضراء فلا تُبْقي منها سوى هياكل صخرية بشعة، تَصدم العين وتَجرح القلب الذي يتذكَّر أَخضر الجبل ويراه اليوم فجواتٍ مرعبةً من البشاعة.

احترام ريشة المبدع

لذا حَلا لي اليوم أَن أَكتب عن “جبل سانت ڤيكتوار” في فرنسا، وكيف حين احتاجت الدولة حجارتَه للكسَّارات، فتحَت فيه فجوة من أَسفله، ودخلَت إِليه تَقْضم الحجارة من قلبه حتى أَفرغَتْه كلِّيًّا من داخله بانيةً فيه أَعمدةً داعمة، وتركَتْه من الخارج كما هو للناظر. كلُّ ذلك كُرمى لريشة الرسَّام پول سيزان (1839 – 1906) لأَنه أَمضى سنواتٍ يرسم هذا الجبل من مسافات بعيدة ومتوسطة وقريبة، وفي أَوقات مختلفة من النهار، وفي أَيام مختلفة من الفصول، حتى تكوَّنت لديه مجموعة من 80 لوحة مائية وزيتية لها موضوع واحد: “جبل سانت ڤيكتوار”.

ما هو هذا الجبل؟ وما أَهميتُه؟

الجبل في الصيف

الجبل في الطبيعة

هو سلسلة عالية في جنوب فرنسا، يطل على منطقة إِكس آن پروڤانس، صخوره كلسية تمتد نحو 18 كلم، تبلغ قمته 1011 مترًا. أَهميته السياحية أَن رؤُوس قممه تُغري هواةَ تسلُّق الجبال ربيعًا وصيفًا، وهواةَ التزلج شتاءً، وهواةَ الطيران الشراعي، وهواةَ الغَور في كهوف الجبال والمغاور والكُوى. وتقدِّر وزارة السياحة الفرنسية نحو 700 أَلف سائح ورياضي سنويًّا في ممراته المتعرجة والمتعددة الأَشكال.

سنة 1902 بنى سيزان محترفًا في ناحية اللوڤ Lauves (ضاحية من إِكس آن پروفانس)، منه كان يرى جبل سانت ڤيكتوار، وفيه رسَم معظم لوحاته عنه، ملتقطًا لحظاتِ الجبل في هنيهات وسَمَها مرةً بالبنفسجيّ، مرةً بالأَخضر، مرةً بالأَزرق، وفْق الوقت الذي يرسم فيه لوحاته، والمزاج الذي يكون فيه إِبَّان رسمه إِياها، وفي جميعها أَحوال الطقس وانعكاسُه على نور الجبل وضبابه.

الجبل في تعبير مائيّ

الجبل بريشة سيزان

تلك اللوحات رسمها على مرحلتين: الأُولى بين 1870 و1895، والأُخرى (وهي الأَهمّ) بين 1904 و1906 حتى وفاته. لم تكن ذات شهرة إِلَّا في السنوات الأَخيرة من حياته. قبل مرحلة الجبل كان سيزان يعاني من ضُمُور شهرته وإِشاحة صالات العرض عنه. وما سوى سنة 1895 حتى تمكَّن من إِقامة معرضه الفردي الأَول، وكان قبلذاك يشارك في معارض جماعية قلَّما كانت لوحاته فيها تجذب الزوار. وبعد وفاته اتخذت لوحات الجبل أَهمية كبرى، فأُقيم لها وحدها حيِّز خاص في معرض الخريف (پاريس 1907) ثم توزَّعت على متاحف كبرى: المتروبوليتان في نيويورك، متحف أُورساي في پاريس، والمتحف الوطني في لندن.

لوحات الجبل رسمها سيزان غالبًا في ثلاث نقاط: قرب أَرض شقيقه في “بِلْڤو” (Bellevue)، قرب مقلع “بيبيموس” (Bibemus) قرب بيته في إكس آن بروفانس، وفي ناحية اللوڤ (Lauves) حيث محترفُه.

الجبل تحت الثلج

ريشة سيزان تقرأ الجبل

كان يخرج غالبًا من محترفه إِلى الطبيعة كي يرى الجبل وما حوله من زوايا مختلفة، فتَغْنى لوحاتُه بتنوُّع ملامح الجبل، وفْق مناخ الطقس والصحو والغيم والضباب والمطر، كي يعطي قارئَ لوحاته فكرةً أَشمل عمَّا تدغدغ به الطبيعة الأُمُّ ولدَها الجبل العالي.

بعد ستة أَشهر من تدشين خط القطار في 15 تشرين الأَول/أُكتوبر 1895 بين إِكس ومرسيليا، كان سيزان مأْخوذًا بروعة هذا الجبل. في رسالة إِلى رفيق الدراسة صديقه الكاتب إِميل زولا (14 نيسان/أَبريل 1878) وصف له هيبة هذا الجبل وتأْثيرها عليه كلَّما مرَّ بساحله القطار عابرًا فوق النهر على الجسر القديم المتعدِّد القناطر، وأَلمح إِلى أَنه سيكون يومًا مصدرَ رسمٍ مذهلًا. وهكذا كان. وحين بدأَ يرسمه، لم يعكس شكْله فقط على قماشته البيضاء، بل ما توحي إليه شخاريبُه وأَضلاعه وتعرُّجاته، متخطيًّا ما تراه العين العادية، ورسَم بتغيير أَلوانه ومزجها، إِحساسه بالجبل أَكثر مما رسم شكل الجبل.

سيزان في رسم ذاتيّ

مات في العاصفة وبقي فنُّهُ والجبل

في 15 تشرين الأَول/أُكتوبر 1906، وكان في الطبيعة يرسم زاوية من الجبل، هبَّ إِعصار قوي أَعاقه عن مواصلة الرسم. شعر بمغص شديد في أَحشائه فما استطاع حمْل مَلْوَنه وأَلوانه وريشاته والسير بها للرجوع إِلى البيت. بقي ساعات طويلة تحت زخات المطر الكثيف المتواصل. وإِذ تحامل على مغصه واقترب من الطريق العام، مرَّ به صاحب مصبغة على عربته، فساعده على الصعود إِلى العربة وهمز حصانه كي يسرع إِلى بيته حيث قضى الرسام ليلته.

في اليوم التالي وجد أَنه في حال أَفضل فذهب إِلى محترفه ليرسم، لكنه تعِب فجأَة فغادر المحترف إِلى بيته القريب، وفيه بدأَت موجات النزع الأَخير أَيامًا مؤْلمةً حتى انطفأَ بعد أُسبوع من الحادثة، في 22 تشرين الأَول/أُكتوبر بالتهاب رئوي حاد قطَع عليه تنفُّسه.

  مات سيزان، وبقيَت لوحاته عن الجبل، وبقي الجبل حتى اليوم على ما هو من الخارج، مرنى الناظر إِليه عن بُعد، والناظر إِليه في لوحات سيزان الذي، لأَجل ريشته المبدعة، فرَّغَت الدولة لاحقًا قلْب الجبل، وأَبقت منظره مهيبًا جميلًا كي لا ينصدم زائر المتحف حين يرى لوحات سيزان ولا يعود يرى الجبل كما رسمه سيزان.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى