لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (7): خبثُ الغربِ في التغييرِ الديموغرافي

تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعًا شائكًا يتعلَّق بالأسبابِ والظُروفِ التي جَعَلَت من لبنان بؤرةً لحروبٍ أهلِيَّةٍ مُتَواصِلة مُنذُ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديمُ الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحوٍ مُقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجلِ استكشافِ الأسبابِ التي جعلت لبنان مسرحًا لحروبٍ أهلية مُستدامة، وبأشكالٍ مُختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعُد والتنابُذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، ورُبّما بطُرُقٍ أُخرى مختلفة. كما تطرحُ إشكالياتِ التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظرًا لارتباطِ بعض المكوّنات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟

سليمان الفرزلي*

من المُلفِتِ أنَّ مواقِفَ الدولِ المُصَنَّفة ديموقراطية في الغرب، وأهمّها الولايات المتحدة الأميركية، وبريطانيا، وفرنسا، كانت مُلتَبِسةً في الحرب الإسبانية، وكذلك في الحرب اللبنانية. وإذا سُمِعَ لها صوت، فقد كان صوتًا خافتًا، وفي بعض الأحيان صوتًا شامتًا مُتَهَكِّمًا، كما رأينا في تعليق البريطاني راندولف تشرشل على الحرب الإسبانية بوصفه التحقيري للمتقاتلين بأنهم “داغوس” يفتكون ببعضهم البعض. أو كما نُسِبَ إلى المبعوث الأميركي الى بيروت خلال الحرب اللبنانية، دين براون، قوله لأقطاب “الجبهة اللبنانية”: “ها هي سفن اسطولنا في البحر جاهزة فارحلوا”.

وقد كان من السذاجة أن تُعَوِّلَ القوى الجمهورية الإسبانية على دول الغرب لمجرّدِ اعتبارِها دولًا ديموقراطية، فالمسألة الديموقراطية هي آخرُ همّها. ذلك أنَّ العواصِمَ الغربية، واشنطن ولندن وباريس، كانت تنظرُ إلى الجمهوريين الإسبان على انهم “شيوعيون ماركسيون موالون للاتحاد السوفياتي”، لأنهم كانوا يتلقّون مساعداتٍ علنيّة من حكومة ستالين في موسكو، ومن الأحزاب الشيوعية الأوروبية، وأقواها في ذلك الوقت الحزب الشيوعي الفرنسي، والحزب الشيوعي الإيطالي.

أمّا في لبنان، فإنَّ الأجندة الغربية، وخصوصًا الأميركية، كانت وما زالت، توطين اللاجئين الفلسطينيين، كما هي اليوم توطين النازحين السوريين أيضًا. وهذا من الأدِلّةِ القويّةِ على أنَّ الحربَ الأهلية اللبنانية ما زالت قائمة بطُرُقٍ أُخرى، كما نُشاهِدُ على المسرح السياسي، والاقتصادي، والمالي، والنقدي، حيث يجري إفقار الشعب اللبناني بصورةٍ مُمَنهَجة.

وقد جاءَ في تقريرٍ لوكالةِ الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) حَولَ مُعَدّلاتِ الإنجابِ والوفيات، وحركةِ الهجرة في العالم، أنَّ مُعدّلَ الإنجابِ السوري هو الأعلى في العالم وقدره 4.4 في المئة، بينما يتناقَصُ الشعبُ اللبناني بسببِ الهجرة وارتفاع معدل الوفيات، بسبب تضاؤل الخدمات الصحية، بنسبة 8.6 في المئة، وهي أعلى نسبة في العالم. فالمُعَدّلُ السوري هو الأعلى من فوق، والمُعَدّلُ اللبناني هو الأعلى من تحت.

ولذلك فإنَّ إبقاءَ الحرب الأهلية اللبنانية مُستَعرةٌ بطُرُقٍ أُخرى، كما هو حاصلٌ الآن، هو الأمرُ الأخطر على الوجودِ اللبناني.

كانت دولُ الغربِ تَعرِفُ أنَّ هتلر في ألمانيا، وموسوليني في ايطاليا، يتدخّلانِ بصورةٍ مباشرة بقواتٍ جويّة وبرّية إلى جانب الجنرال فرانكو في إسبانيا، وتصرّفت وكأنَّ ذلك يُناسبها، كما ثبت في ما بعد عندما استتبَّ الأمرُ لصالح فرانكو، الذي أمر بتصفياتٍ جماعية للجمهوريين بعد الحرب، فاقت في عدد ضحاياها ما سقط في الحرب ذاتها، من غيرِ أيِّ كلمةِ احتجاجٍ من أحد.

إنَّ المشكلةَ الراهنة في لبنان، بفعل الحرب الأهلية المُستَمِرّة، عن عَمْد، وبموافقة دولية كما يبدو من مسألة النازحين واللاجئين، باتت أخطر وأصعب من أن تُعالَجَ من خلالِ الوَضعِ الراهن ورجالاته.

ولهذا، فإنَّ تجدُّدَ الحرب الساخنة في لبنان، بأطرافٍ وأهدافٍ مُختلفة، يزدادُ احتمالًا، وتتلبَّد غيوم إعصاره، لعدم وجود رغبة غربية في وقف التغيير الديموغرافي الحاصل.

  • سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى