معنى أَن يكونَ التوقيع: كركلَّا
هنري زغيب*
لا يرتدع هذا العبدالحليم. لا يستسلم. يعاند في أَصعب الظروف ويواصل تطلُّعه إِلى فوق، حيث الطموحُ حدودُه المدى. لا الكورونا حدَّت من مواظبته على التمارين اليومية في مسرحه (الإِيڤوار)، ولا الضائقة الاقتصادية أَعاقته عن مواصلة التزاماته تجاه فرقة كبيرة كلَّما خرجَت من بيروت حمَلَت معها لبنان إِلى أَكبر مسارح العالم شرقًا وغربًا.
منذ أَكثر من نصف قرنٍ، وهذا الكركلَّا يَدور في العواصم وكبرى المدن، فتستقبله الصحافة العالمية على أَن “فرقة كركلَّا” الآتية من لبنان تقدِّم وجهًا فنيًّا ساطعًا من التراث العربي. وحين الستارةُ العربية تنفتح على مسارحها، تصفِّق الصحافة العربية للفن اللبناني العالي بتوقيع كركلَّا.
ذلك أَنَّ هذا العبدالحليم العنيدَ في اطِّلاب الأَفضل والأَجمل والأَرقى، واعٍ تمامًا مسؤُوليةَ أَن يكون التوقيع “كركلَّا”، فيجالدُ في مثابرته دَؤُوبًا مع فرقته، حانيًا عليها، حاميًا إِياها من كل ريح غَضُوب، لتواصلَ مسيرتها صبيَّةً دومًا، أَنيقةً دومًا، فتكونَ الجماليا نجمتَها الأُولى على جبين الإِبداع اللبناني.
وأَكثر: يعرف عبدالحليم، في صمته وفي جَهره، أَنَّ الفن يحيا في الصعوبة ويموت في الرخاوة والاستسهال، فيقسو على ذاته أَوَّلًا في الجهد اليومي، ويطَّلِب الجهد ذاته من فرقته فتبقى مرصودة على النجاح. ولأَنه كذلك، نجح في دفْع الجيل الكرَكَلِّيّ الثاني إِلى إِقليم المثابرة والعناد الاحترافي، فأَشرقَت لديه موهبتان يَهْنأُ أَنهما تنافسانِهِ في الجدِّيَّة وتتكاملان اطِّلابًا: مهارة ابنته إِليسار في كوريغرافيا، وطليعية ابنه إِيڤان في الإِخراج.
بعد سُطُوعه في “العُلا” السعودية قبل أَشهر بعمله الأَخير “جميل وبثينة”، يحزم حقائبَ طموحه مجدَّدًا لينطلقَ الأُسبوع المقبل بفرقته إِلى عُمان ويحطَّ في مسْقط على مسرح “دار الأُوپرا السُلطانية” (للمرة الثالثة بعد “أَلف ليلة وليلة” و”إِبحار في الزمن”) فيقدِّمَ عمله الجديد “أُسطورة فينيقيا الماضي الحاضر” حاملًا مرةً أُخرى إِلى جمهور عُمان وضيوفها قبَسًا من تراثنا يُضيْءُ به واحدةً من حَكايانا السامقات.
إِنها قصةٌ من شاطئنا الفيروزي عند عطْفة بيبلوس، جبيل الحرف والكتاب، في معبد الملك أَحيرام مستقبلًا ابنَ رعمسيس الثاني عريسًا لابنته سيدروس. هكذا: حتى الاسم شاءَه “أَرزيًّا” هذا العبدالحليم، فلم يُعطِ الصبية اسمًا حياديًّا بل وهَبَها اسمَ أَرزتنا الخالدة، رمز علَمنا وعزَّتنا وسُكنى لبناننا الدائم. وهكذا جمع لقاءَ وادي النيل ببلاد الأَرز، ومجدَ الفراعنة بمجد الفينيقيين.
سوى أَنه لا يبقى هناك في دفاتر الماضي بل ينتقل إِلى حاضرنا اللبناني، إِلى ضيعة من عندنا في الجبل، يَنسُج فيها قصة حب لا يرضخ للعادات الموروثة وتقاليد “التابو” المتناسِلة في كل عصر، بل يَتْبع الخطى الجديرة بكلّ حب كبير أَن يسير بها ويعيش لها ويغتذي منها، كأَنما صدًى لصوتِ مصطفى أُورفليس: “إِذا الحبُّ نَدَهَكُم فانقادوا إِليه ولو انَّ طريقَه وعـرةٌ شائكة” (جبران – “النبي”).
تابعتُ هذا الأُسبوع التمارينَ الأَخيرة لـ”أُسطورة فينيقيا الماضي-الحاضر”، فإِذا هي نابضةٌ تَتَمَهْرَجُ أَلوانًا وموسيقى وأَداء تمثيليًّا وغنائيًّا مع كوكبة تُـمَوْسِقُ إِيقاعاتِـها كوريغرفيا إِليسار كركلَّا، ونضارةُ هدى حدَّاد صوتًا وحضورًا، واحترافيةُ جوزف عازار، ومهنيةُ منير معاصري، وموهبةُ غابي يمين، بمشاركة سيمون عبيد ومحمد حجيج، ويغمر المسرحَ إِخراجُ إِيڤان كركلَّا في عناقٍ مشهديٍّ ممتع.
على أَنَّ النبض الواثق يبقى دومًا للمايسترو الذي يَدأَب مثابرًا على الأَفضل والأَجمل والأَبقى لأَنه يعرف، جاهدًا ومؤْمنًا يعرف، أَنَّ عليه مسؤُوليَّتين عُظْمَيَين: معنى أَن يحملَ اسمَ لبنان، ومعنى أَن يكون التوقيع “عبدالحليم كركلَّا”.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).