في الجزائر، الهِجرةُ هي أحدُ أعراضِ مأساةٍ إجتماعيةٍ أوسع

في الجزائر، كما في بلدان أخرى في شمال إفريقيا التي تتحمل وطأة التأثير طويل المدى للهجرة غير النظامية على مجتمعاتها وتنميتها الاقتصادية، أدت عمليات المغادرة اليومية والخسارة المأسوية في أرواح الأبرياء أيضًا إلى خلق نظرة تشاؤمية يصعب تجاهلها.

الرئيس عبد المجيد تبون: ماذا يفعل نظامه لمنع الهجرة غير القانونية؟

زين العابدين غبولي*

في 21 آذار (مارس)، لقي تسعة مهاجرين جزائريين حتفهم عندما انقلبَ القارب الذي كان يقلّهم إلى إيطاليا في البحر الأبيض المتوسط. هذه القصة المأسوية، إلى جانب قصصٍ أخرى لا حصر لها، تُسلّطُ الضوءَ على تكلفة الهجرة، والتي لا تقتصرُ على الخسائر في الأرواح. في الواقع، شكّلت التقارير التي حظيت بتغطية إعلامية كبيرة عن وفيات المهاجرين بشكلٍ متزايد رؤيةً للهجرة غير النظامية باعتبارها أحد أعراضِ مأساةٍ اجتماعية أوسع نطاقًا، والتي تدفع الآلاف من الشباب المهرة من إفريقيا إلى الانطلاق في مسارات غير معروفة وخطيرة بحثًا عن مستقبلٍ أفضل لأنفسهم.

في الجُزءِ الأخير من هذا المسار، ينطلقُ المهاجرون في معابر بحرية محفوفة بالمخاطر والتي قد تستغرقُ أحيانًا ما يصلُ إلى يوم كامل، مع القليل من معدّات السلامة وفي ظلِّ ظروفٍ غير إنسانية. يمتلئ قاربٌ نموذجي بعشرات المهاجرين، بمن فيهم عائلات ونساء وأطفال، ما يزيد من تأثير الكارثة سوءًا في حالة وقوعها على طول هذه الطرق. تنتهي رحلاتهم عبر البحر الأبيض المتوسط عادةً على السواحل الإسبانية والإيطالية، حيث يأملون في الاستفادة من مزايا حرية التنقل التي تمنحها منطقة شنغن التابعة للاتحاد الأوروبي لمواصلة التقدم إلى بلدان أخرى.

لكن قبل وقت طويل من وصولهم إلى شواطئ أوروبا، أو حتى الانطلاق في مغامرتهم، يلجأ العديد من المهاجرين إلى شبكات إجرامية تتحدى السلطات الوطنية والإقليمية والدولية لتهريبهم على طول الطرق الخطرة من أجل الوصول عبر البحر الأبيض المتوسط. تعمل هذه الطرق غير النظامية على تمكين شبكات الجريمة المنظمة، وتؤثر في الاقتصادات المحلية وتؤدي إلى تصدعات مجتمعية يصعب علاجها. بالإضافة إلى هذه الآثار قصيرة المدى، فإن الهجرة غير النظامية تعرقل أيضًا التنمية الاقتصادية للجزائر وتغذي الشعور بالانهزامية بين العديد من شرائح المجتمع.

بعبارة أخرى، في حين أن المهاجرين لديهم أسباب منطقية للقرارات التي يتخذونها، فإن خياراتهم لها تأثيرات كبيرة على المجتمعات الأوسع التي يأتون منها. الواقع أنَّ القرار بالهجرة مُعَقَّدٌ وله العديد من العواقب قصيرة وطويلة المدى.

أصبحت شبكات تهريب المهاجرين مشاريع مربحة في الجزائر. على سبيل المثال، وجدت تقديرات لإحدى وسائل الإعلام أن عبورًا واحدًا إلى إسبانيا يمكن أن يكلف أكثر من 4,000 يورو للشخص الواحد. ولكن على الرغم من التكلفة الباهظة، ينجذب الكثير من الشباب إلى “تذاكر القوارب” كوسيلة للخروج من مجتمعهم الفاشل. ردًا على ذلك، حاولت السلطات الجزائرية معالجة الأزمة بمجموعة من السياسات العقابية التي تُجرّم شبكات التهريب وضحاياها. لكن هذه الإجراءات لم تكن فعالة مثل الخطوات الوقائية التي اتخذتها الأجهزة الأمنية لتعقّب وتفكيك مجموعات التهريب. في أواخر آذار (مارس)، على سبيل المثال، فككت السلطات الجزائرية شبكة تهريب عبر وطنية تنقل المهاجرين من دول مثل سوريا ولبنان إلى الجزائر عبر مطار بنغازي في ليبيا، ثم إلى أوروبا.

ومع ذلك، من غير المرجح أن تردع الإجراءات العقابية المهاجرين، تمامًا كما إنَّ التدخلات الوقائية لن توقفَ المهرّبين، بسبب العديد من العوامل التي تدفع الهجرة. بسبب المظالم التي تشمل ارتفاع معدلات البطالة والظلم، فإن العديد من المواطنين المحرومين على استعداد للمخاطرة بمدخرات عائلاتهم للسفر عبر البحر الأبيض المتوسط. غالبًا ما يلجأ المهاجرون المُحتَمَلون الآخرون الذين لا يستطيعون جمع الأموال بسهولة لدفع تكاليف الرحلة إلى وسائل غير قانونية -مثل السرقة والاتجار بالمخدرات- للقيام بذلك، مما له تأثير مضاعف على المجتمع. على المنوال عينه، يمكن رؤية الأثر الاقتصادي للهجرة في انخفاض القوى العاملة عبر قطاعات مثل الزراعة والمشاريع الصناعية، حيث يغادرُ العمال ذوو المهارات العالية في كثير من الأحيان بحثًا عن فُرَصٍ أفضل في الخارج. بكل هذه الطرق، يدفع المجتمع الجزائري تكلفة اجتماعية واقتصادية عندما يسعى الكثير من الشباب إلى مغادرة البلاد بحثًا عن مراعٍ أكثر اخضرارًا في الخارج.

هذه المأساة الوطنية لا تنتهي بإتمام الرحلة بنجاح، حتى بالنسبة إلى المهاجرين أنفسهم. الشباب المحظوظون بما يكفي للوصول إلى أوروبا على الرغم من المخاطر التي يواجهونها على طول الطريق، يواجهون في النهاية مجموعة جديدة من العقبات الاجتماعية، في بيئاتهم الجديدة وفي وطنهم. بادئ ذي بدء، يجب أن يتكيف المهاجرون مع النزعة الوطنية المتزايدة والمشاعر المعادية للمهاجرين في أوروبا، حيث تنفذ الحكومات الوطنية تدابير عقابية لتقييد الهجرة. يجب على هؤلاء وأحبائهم، الذين تُرِكوا وراءهم، أن يتعاملوا أيضًا مع الجروح الاجتماعية والعاطفية الناجمة عن تمزق الروابط الأسرية والتكاليف الاجتماعية الأخرى المرتبطة بالهجرة.

في الجزائر، كما في بلدان أخرى في شمال إفريقيا التي تتحمل وطأة التأثير طويل المدى للهجرة غير النظامية على مجتمعاتها وتنميتها الاقتصادية، أدت عمليات المغادرة اليومية والخسارة المأسوية في أرواح الأبرياء أيضًا إلى خلق نظرة تشاؤمية يصعب تجاهلها. بعد أن تلاشى الزخم الذي أحدثته احتجاجات الحراك المؤيدة للديموقراطية في العام 2019، فَقَدَ الوعدُ بالتغيير في الوطن جاذبيته للشباب، الذين يفضل الكثير منهم الآن التضحية بأي شيء -بما في ذلك حياتهم- للوصول إلى أوروبا. هذه الاستقالة الجماعية لا تُبشّر بالخير لمستقبل الجزائر وأي آمال في تحقيق التنمية الاقتصادية.

الجزائر، التي يبلغ متوسّط عمر سكانها 28 سنة، لديها عددٌ كبير من الشباب مع تطلعات لا حدود لها. اندلعت انتفاضة 2019 من خلال مطالب بإصلاحات سياسية، ولكن تم توسيعها لتشمل دعوات لنظام اقتصادي جديد قائم على إطلاق العنان للإبداع والإنتاجية في البلاد. بينما اتخذت الحكومة بعض الخطوات لتعزيز ريادة الأعمال وتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية، فإن اليأس العميق الجذور الذي يشعر به كثير من الشباب بشأن آفاقهم الاقتصادية قد أعاق فعالية هذه المبادرات. في العام 2021، سعى ما يقرب من 10,000 جزائري إلى دخول إسبانيا وحدها، ناهيك عن طرق ووجهات الهجرة الأخرى. هذا الرقم هو مجرد مثال واحد على هجرة الأدمغة المكلفة التي ستتحملها الجزائر في السنوات المقبلة.

تصر الطبقة السياسية الجزائرية على أن البلاد تقودها الآن قيادة جديدة مستعدة للتخلّي عن الممارسات القديمة وإصلاح النظام السياسي الذي ورثته عن الجيل السابق من القادة. لكن قلة من الجزائريين مقتنعة، والكثير منهم يصوّتون بأقدامهم بشكل متزايد. إلى جانب الإحصائيات اليومية والقصص المؤلمة عن الكوارث على طول طرق الهجرة، فإن التأثير السياسي والاجتماعي والاقتصادي لهذه المأساة الوطنية للهجرة الجماعية واضح.

الاتجاه الحالي، الذي من غير المرجح أن يتضاءل في أي وقت قريب، هو مجرد مؤشر إلى مأزقٍ مجتمعي أكبر سيتطلّب إصلاحاتٍ هيكلية واسعة وعميقة إذا أُريدَ التغلب عليه. في غضون ذلك، وبشكل مأسوي، ستستمر وسائل الإعلام في احتساب تكاليف الهجرة في الأرواح المفقودة على طول الطريق. ولكن سيكون الشعور بها على نطاق أوسع بكثير في البلدان والمجتمعات المتأثرة بها.

  • زين العابدين غبولي هو زميل في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية ومبادرة الإصلاح العربي. يركز عمله على التعاون الأورومتوسطي والسياسة الجزائرية. يمكن متابعته عبر تويتر على: @GheZinou

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى