كلّهم في انتظار ماكرون!

كابي طبراني*

على الرغم من أن الفترة التي تفصلنا عن الانتخابات الرئاسية الفرنسية لا تتعدّى الشهرين، فإن الوضعَ يبدو كما لو أن الحملةَ الإنتخابية لم تبدأ حقًا. على جبهتَي اليمين واليسار، ينشغلُ المُرَشحون بتحديد مناطقهم وتثبيت أقدامهم فيها ضد مُنافسيهم المُقرَّبين. ويُركّز كلا الطرفين على تصفية الحسابات الداخلية أكثر من التركيز على مواجهة شاغل المنصب، إيمانويل ماكرون.

على جبهة اليسار، يسعى سبعةُ مُرشَّحين إلى الحصول على تأييد غالبية ما لا يزيد عن 25 في المئة من الناخبين. على جبهة اليمين، يجري سباقٌ مُماثل بين الوسطيين والمتطرّفين، حيث يتنافس ثلاثة مرشحين في النهاية على حوالي 45 في المئة من الناخبين. تُظهر استطلاعات الرأي حاليًا فوز ماكرون في الجولة الأولى بنسبة 25 في المئة وإعادة انتخابه في الجولة الثانية، بغض النظر عمّا إذا كان سيواجه مارين لوبان من حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف أو فاليري بيكريس من حزب يمين الوسط التقليدي، حزب الجمهوريين.

في غضون ذلك، يبدو أن ماكرون سعيدٌ بمشاهدة منافسيه يتقاتلون في ما بينهم، لذا أجّل الإعلان الرسمي عن ترشيحه حتى اللحظة الأخيرة، وأوضح أنه لن يشارك في مناظرات الجولة الأولى.

إن سيطرة ماكرون اللافتة على الحياة السياسية الفرنسية غريبة وشاذة. في معظم الديموقراطيات الكبرى، أصبحت السياسة مُستَقطِبة بشكلٍ متزايد، حيث صار كلٌّ من اليسار واليمين يعيش حالة من الكراهية المُتبادَلة. كيف تمكّن ماكرون من الحفاظ على خط الوسط المعتدل؟ جُزءٌ من الجواب يكمن في الظروف الاستثنائية التي انتُخِبَ فيها في العام 2017.

في تلك الانتخابات، كان المرشح اليساري المُحتَمَل، الرئيس آنذاك فرانسوا هولاند، لا يحظى بشعبيةٍ كبيرة، وكانت نسبة قبوله وتأييده لا تتعدّى ال4 في المئة قبل عامٍ من انتهاء فترة ولايته، لدرجة أنه اختار في النهاية عدم الترشّح. في الوقت عينه، غرق مرشح اليمين، فرانسوا فيون، في فضيحة مالية أدّت في النهاية إلى الحكمِ عليه بالسجن خمس سنوات بتُهَمِ اختلاس.

بالإضافة إلى هذه الظروف الفريدة، استفاد ماكرون أيضًا من التطرّف المتزايد لكلٍّ من اليسار واليمين، ما مكّنه من تعزيز سيطرته على كتلةٍ كبيرة من الناخبين الذين كانوا قلقين من تطرّف الجانبَين. اتّبعت حملته استراتيجية “الناخب الوسطي”، حيث استطاعت جذب الناخبين اليساريين المُعتدلين (كثيرون منهم لا يزالون يؤيِّدونه) بالإضافة إلى نسبةٍ كبيرة من اليمين المعتدل.

الآن، يُسلّطُ استطلاعٌ  جديد للاتجاهات الانتخابية الفرنسية، استنادًا إلى عيِّنة من حوالي 10,000 ناخب جمعتها الشركة المتخصصة بالأبحاث “إبسوس”، الضوءَ على مسار الناخبين اليساريين الذين دعموا هولاند سابقًا. في العام 2012، مثّلت هذه المجموعة 28.5 في المئة من الناخبين. في العام 2017، أدلى 46 في المئة من ناخبي هولاند السابقين بأصواتهم لصالح ماكرون. الآن، ينقسم هذا الجُزء من الناخبين إلى أثلاثٍ ثلاثة: 36 في المئة يواصلون دعم ماكرون، و 34 في المئة يستعدون للتصويت مرة أخرى لمُرَشَّحٍ يساري، و29 في المئة يعتزمون الامتناع عن التصويت.

وبذلك انخفضت نسبة الناخبين الملتزمين باليسار بنحو 18 نقطة مئوية. ليس فقط أن اليسار المعتدل انشق، فقد قرّرت نسبة متزايدة من ناخبي الطبقة العاملة الامتناع عن التصويت أو دعم اليمين المتطرف. نظرًا إلى أن اليسار هو بوضوح بحاجة إلى إعادة إنعاش إيديولوجية، فإن مرشحيه في هذه الانتخابات يُركّزون إلى حدٍّ كبير على تمهيد الطريق لما بعد مغادرة ماكرون المشهد الرئاسي.

لكن الماكرونية كان لها أيضًا تأثيرٌ كبير في اليمين. يُظهر الاستطلاع نفسه أن الدعم ل”بيكريس” هو أقل مما كان عليه الدعم ل”فيون” في هذا الوقت تقريبًا من العام 2017، ما يعكس هجرة الناخبين ذوي الميول اليمينية إلى أماكن أخرى. يستعد حوالي 29 في المئة من ناخبي فيون للتصويت لماكرون، ويؤيّد 16 في المئة إيريك زيمور، المنافس اليميني المتطرّف الجديد للوبان. وبالتالي، فإن بيكريس تسيطر فقط على 48 في المئة من ناخبي فيون. في سعيها إلى جذب تأييد كلٍّ من يمين الوسط واليمين الراديكالي، تبدو بيكريس أخيرًا أكثر اهتمامًا بالفوز على الأخير، حيث ذهبت إلى حد إبراز نظرية “الاستبدال العظيم” العنصرية، التي طوّرها المفكر اليميني المتطرف رينو كامو. والأمر عينه يتكرّر مع اليسار حيث يكافح التقليديون لفرض أنفسهم ضد المتطرفين.

تكمن مشكلة اليسار واليمين في أن هذه الانتخابات تأتي في وقتٍ يهتمُّ الناخبون بشكلٍ أساس بقضايا المعيشة وطاولة المطبخ، بدلًا من اختبارات النقاء الإيديولوجي. أظهر استطلاع “إبسوس” أن القَلقَين الأكثر تكرارًا من قبل الناخبين هما انخفاض القوة الشرائية (44 في المئة) وكوفيد-19 (35 في المئة).

هاتان القضيتان، اللتان تتعلقّان أساسًا باللقاح وسعر الوقود، بالكاد تساعد على التفوّق الإيديولوجي. لا يُمكِن لليمين أن يتّهم ماكرون بالإسراف المالي، لأن الناخبين يريدون المزيد من الدعم المُمَوَّل من العجز والديون. كما لا يمكن لليسار أيضًا الاستفادة من الوضع. سيحتج الناخبون الفرنسيون بشدة على ارتفاع أسعار الطاقة، الأمر الذي يزيد من صعوبة الضغط من أجل فرض ضرائب جديدة على الوقود الأحفوري، حتى لو كانت هناك أيضًا تدابير للمساعدة على تعزيز نموذجِ استهلاكٍ جديد.

ثم مرة أخرى، لا تبقى السياسة الفرنسية عادةً في سباتٍ وخاملة لفترة طويلة، كما اكتشف شارل ديغول وفاليري جيسكار ديستان في زمانهما. في العام 1965، افترض ديغول أن انتخابه كان مؤكّدًا. ومع ذلك، رُغم كل الصعاب، كان عليه أن يُديرَ حملة الجولة الثانية ضد فرانسوا ميتران، الذي كان حصل على تأييد ودعم كل اليسار، بما في ذلك الحزب الشيوعي. وبالمثل، كان جيسكار ديستان، شاغل المنصب من يمين الوسط، واثقًا من أنه سيفوز بإعادة انتخابه في العام 1981. ولكن بسبب تداعيات صدمة النفط العالمية الثانية، فقد خسر أمام ميتران.

قد تُفاجئنا حملة هذا العام أيضًا لا سيما مع اندلاع أزمة أوكرانيا. بعد كل شيء، بطل الرواية الرئيس لم يدخل المشهد بعد.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه: gabrielgtabarani.com أو عبر تويتر على:  @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى