بايدن يُصَحِّحُ طُموحاتَ الولايات المتحدة في الشرقِ الأوسط

 كابي طبراني*

يَتَطلّبُ تقييمُ أداء إدارة جو بايدن في الشرق الأوسط بعد عامٍ على وصوله إلى البيت الأبيض بعضَ المقاييس الدقيقة. هل ينبغي أن يكون المعيارُ هو المُقارنة بسنواتِ دونالد ترامب المُضطرِبة أو بأوقاتٍ سابقة كانت فيها الديبلوماسية الأميركية تُحدِّدُ الأجندة الإقليمية، وفي بعض الأحيان، تُقدِّمُ مساهمة ذات مغزى في تحقيق السلام؟ هل يجب أن تُعطي الأولوية لاحتمال أن الناسَ في المنطقة، الذين كانوا مُستائين من تأثيرات القوة الأميركية المُفرِطة، قلقون الآن ويخشون من غيابها، أو الإجماع الناشئ في واشنطن على أن الولايات المتحدة تواجه تحدّياتٍ استراتيجية أكثر إلحاحًا يجب أن تُراعيها في أماكن أخرى؟

يتحدّث مسؤولو إدارة بايدن بعباراتٍ عملية عن الشرق الأوسط، ويُشيدُ العديد من المراقبين في مجتمع السياسة الخارجية الأميركية بالجهود المبذولة لوضعِ أهدافٍ قابلة للتحقيق، من دونِ طموحٍ كبير. سارع بريت ماكغورك، المسؤول عن شؤون الشرق الأوسط في فريق بايدن والذي خَدَمَ حتى الآن في أربع إدارات رئاسية، إلى الاعتراف بأنه لعقودٍ، التزمت الولايات المتحدة أكثر من اللازم في المنطقة وأعطت وعودًا مُبالَغًا فيها. وهي الآن تضع جانبًا الأهداف المُتطرّفة المُتمثّلة في تحويل الشرق الأوسط من خلال جهودها لتغيير النظام أو إرساء الديموقراطية – و بدلًا من ذلك، تتساوم مع المُستبدّين.

الواقع أن الكثيرين يشعرون بالقلق من أن تُديرَ الولايات المتحدة ظهرها للشرق الأوسط في اندفاعها للتركيز على التحديات الجيوسياسية من الصين وروسيا. لكن المسؤولين الأميركيين واثقون من أن واشنطن تظل الشريك الأمني ​​المُفضّل لحكومات المنطقة. وقد أكدوا للشركاء أنه مع انتهاء العمليات القتالية و”الحربين الأبديتين” في العراق وأفغانستان، لا تزال الولايات المتحدة تمتلك القدرة والإرادة للمشاركة ديبلوماسيًا، مع توفير المساعدة الأمنية والتدريب العسكري، لمواجهة الخصومات الإقليمية والتهديدات المستمرة من الإرهاب. بالنسبة إلى الديبلوماسيين الأميركيين، يعني ذلك التكيّف مع المشهد المُتطوِّر حيث لم تعد الولايات المتحدة تسعى إلى تأكيد الأسبقية في كل أزمة، وحيث يظهر العديد من اللاعبين الإقليميين – إسرائيل والإمارات العربية المتحدة والسعودية وتركيا، وربما العراق ومصر – أنهم مستعدون وقادرون على وضع جدول الأعمال الإقليمي. بعد عقد من الزمن كانت فيه جميع الجهات الفاعلة في الشرق الأوسط تقريبًا تعمل على تأجيج نيران الخصومات والصراعات عبر الحدود، بدأت الآن الانخراط في العمل على حلِّ المشكلات المحلية من خلال المشاركة الديبلوماسية.

في ندوةٍ عبر الإنترنت عقدتها مؤسسة كارنيغي في الأسبوع الفائت، أوضح ماكغورك، الذي يُشرِفُ على سياسة الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي، المصالح الجوهرية الأميركية في المنطقة على أنها تقوم على منع إيران نووية، وتعزيز الاستقرار وحماية الممرات المائية الحيوية – إشارة إلى طرق الشحن للنفط و التجارة العالمية. يُمكِنُ للمرء أن يُناقِشَ ما إذا كانت هذه القائمة مُختلفة حقًا عن النسخ التاريخية، حيث تم ذكر أمن إسرائيل والتدفق الحر للنفط بشكل أكثر وضوحًا. ولكن بإهمال الترويج لقِيَمٍ مثل الديموقراطية وحقوق الإنسان والكرامة الإنسانية، فإنها تُشير إلى أن هذه القِيَم هي الآن على مستوى ثانٍ من الأهمية ولكنها ليست حيوية.

في ما يتعلّق بإيران، تأمل الإدارة بحذر نجاح مفاوضاتها الجارية لإحياء خطة العمل الشاملة المشتركة. على الرغم من التقارير الأخيرة الواردة من فيينا عن معارضة داخل الوفد الأميركي، فإن الإدارة تعلم أن استعادة الاتفاقية ستتطلّب الحزم والمرونة، وهي تُدرِكُ جيدًا التكاليف السياسية للظهور بأنها ناعمة ومُتساهِلة تجاه الجمهورية الإسلامية. ومع ذلك، فإنها تُعطي أولوية قصوى للتهديد الذي يُشكّله البرنامج النووي الإيراني، والذي تفاقم بسبب حملة “الضغط الأقصى” لإدارة ترامب والانسحاب من خطة العمل الشاملة المشتركة.

لطالما اشتكت دولُ المنطقة من أن واشنطن لم تُولِ اهتمامًا كافيًا لأنشطة إيران السياسية والعسكرية في لبنان واليمن وسوريا وخارجها. لكن ليس هناك ما يشير إلى الرغبة في تحقيق ما كان يُطلَق عليه نهج “الصفقة الكبرى” مع إيران. في الوقت الحالي، تُركِّزُ الغرائز البراغماتية لفريق بايدن على خطواتٍ قابلة للتحقيق، ومن المرجح أن يقبلوا شيئًا حتى أقل من خطة العمل الشاملة المشتركة الجديدة والمُحسّنة، طالما أنها تفتح الطريق لإعادة فرض بعض القيود على أنشطة إيران النووية.

غالبًا ما تُركِّزُ العلاقات مع إسرائيل ودول الخليج على إيران، لكن من المفارقات أن بايدن – مثل سلفه دونالد ترامب – حذّر من الوعود أكثر من اللازم. في حين أن التهديد باستخدام القوة العسكرية لا يزال ظاهريًا مطروحًا على الطاولة، فإن الجهات الفاعلة الإقليمية تُدرِكُ تمامًا إحجام بايدن عن التفكير في حربٍ لتدمير برنامج إيران النووي. لا يزال الديبلوماسيون يتحدثون عن “جميع الخيارات” مطروحة على الطاولة، لكن تفضيلَ بايدن لضبط النفس مفهومٌ جيدًا، وقد دفع ذلك الحكومات الإقليمية إلى التعامل مع طهران مباشرة.

على نطاق أوسع، لا تزال شراكات واشنطن الأمنية في الشرق الأوسط قوية. لن تُغلِقَ الولايات المتحدة أيًا من قواعدها العسكرية في المنطقة، حتى لو تباطأ إيقاع عملياتها وقد ينخفض ​​إجمالي عدد القوات بهدوء. لذا فإن النتيجة النهائية هي الشعور بالاستمرارية، وليس الاندفاع نحو الخروج. لكن الحكومات والجماهير الإقليمية تضغط على واشنطن للحصول على مزيد من التأكيدات، مما يضيف إلى الانطباع العام عن سياسة خارجية أقل قوّة مما توقّعه كثيرون.

إن رغبةَ الإدارة في وضع توقعات أكثر واقعية تمتد أيضاً إلى سوريا واليمن. سوريا حاليًا هي المكان الوحيد الذي لا تزال تُستخدَمُ فيه القوة العسكرية الأميركية، بما في ذلك الدعم الجوي الأخير لعملية القوات الكردية السورية لصد هجوم تنظيم “الدولة الإسلامية” على سجن في الحسكة، وقتل زعيم “داعش” في عملية عسكرية خاصة بعدها. نظرًا إلى أن العمليات التكتيكية لمكافحة الإرهاب هي المهمة الأساسية للقوات الأميركية في سوريا، فإن هذا العرض الأخير للقوة يتوافق مع البروتوكولات الراسخة لمواجهة تنظيمي “داعش” و”القاعدة” في المنطقة، وليس انعكاسًا لأيِّ قراراتٍ سياسية جديدة. لكن في السياق الأوسع للصراع السوري، لم تؤكّد واشنطن نفسها وحضورها في الديناميكيات المُعقَّدة بين الأطراف الخارجية – تركيا وإيران وروسيا – ويبدو أنها استسلمت لإدارةِ وضعٍ راهنٍ غير مواتٍ.

من ناحيةٍ أخرى، كانت السياسة المُتعلّقة باليمن مدفوعةً بشكلٍ أساس بالأزمة الإنسانية الحادة في البلاد، ويبدو أن الإدارة أوقفت حملتها للضغط على المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة لإنهاء الحرب هناك. وبدلاً من ذلك، تُحمِّل الحوثيين مسؤولية التصعيد الأخير في القتال وسرعان ما عرضت على الإمارات الدعم السياسي والعسكري بعد هجومين بطائرات مُسَيّرة وصواريخ على أراضيها في الأسبوع الماضي. في أعقاب تلك الهجمات، التي استهدفت إحداها قاعدة الظفرة الجوية حيث تتمركز القوات الأميركية، قد تُذعِنُ إدارة بايدن للضغط الإماراتي لإعادة الحوثيين إلى قائمة الإرهاب التابعة لوزارة الخارجية، بعدما عكست سياسة ترامب من أجل تيسير إيصال المساعدات للشعب اليمني اليائس. كما أرسلت الإدارة مبعوثها الخاص لليمن لإظهار الدعم لديبلوماسية الأمم المتحدة لإنهاء الحرب، ولكن في الواقع، عاد فريق بايدن إلى المشاركة الديبلوماسية الهادئة، بدلًا من المواقف العلنية للخطاب الذي ساد في حملة بايدن الرئاسية في العام 2020.

أما بالنسبة إلى نصائح بايدن المُتكرّرة حول حقوق الإنسان والقِيَمِ الأميركية، فقد جعلت من سياسته في الشرق الأوسط سياسة ضعيفة. لم يُرضِ التقدميين في الحزب الديموقراطي، أو في المنطقة، الذين كانوا يأملون في اتباعِ نهجٍ أكثر صرامة تجاه سجلات حقوق الإنسان المؤسفة للسلطويين والمستبدّين في المنطقة، كما أنه لم يُظهر أي علامة على اهتمامه بالانخراط في الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. ربما يكون هذا مُبَرَّرًا، بالنظر إلى عدم اهتمام الجانبين بالمفاوضات، لكنه لا يرقى إلى مستوى مطالب الشخصيات الديموقراطية التقدمية في الكونغرس من أجل تحقيق عدالة أكبر للفلسطينيين.

في حين أنه من العدل أن نقول إن بايدن لم يُحقِّق أيَّ إنجازاتٍ كبيرة في الشرق الأوسط أو اختراقات ديبلوماسية في سنته الأولى في المنصب، فإن ذلك سيكون استخدامًا لمعيارٍ خاطئٍ للحُكمِ على سجلّه حتى الآن. هناك على الأقل عملية جارية لاستعادة خطة العمل الشاملة المشتركة، على الرغم من أن البعض قد يعتبر المفاوضات البطيئة المؤلمة جُرحًا ذاتيًا. وعدم إحراز تقدم في سوريا واليمن لا يمكن اعتباره فشلًا أميركيًا فريدًا.

عند الفحص الدقيق، أمضت إدارة بايدن أشهرها الأولى في العمل على استعادة الثقة مع الحلفاء والشركاء بعد التحوّلات الجذرية المُفاجِئة والمُدمّرة في الاتجاه على مدى الإدارات الأميركية المتعاقبة. لكن هذه الثقة بعيدة المنال. سئم العديد من الشركاء الإقليميين من غطرسة واشنطن واعتمادها المفرط على القوة العسكرية، لكن فكرة وجود مجموعة أكثر تواضعًا من الأهداف الأميركية كان من الصعب استيعابها. وقد أدّت الطريقة التي خرجت بها الولايات المتحدة من أفغانستان إلى تفاقم المشكلة من خلال إثارة أسئلة حول كفاءة ومصداقية واشنطن.

أحد الأشياء الذي يُوضّحه نهج إدارة بايدن تجاه الشرق الأوسط هو أن المنطقة لم تعد مركز الثقل للأمن القومي الأميركي، والتوفيق الأفضل بين الغايات والوسائل يكمن في استراتيجية عملية لمُشاركةٍ مُستدامة مع الشركاء. استراتيجيةٌ تؤكّد على الجهود المشتركة والاعتماد الأكبر على القوى الإقليمية للتعامل مع التهديدات.

بعبارةٍ أخرى، قام فريق بايدن ببعض التفكير الذكي لإعادة ضبط سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط لتعزيز مصالحها. ومع ذلك، فقد ألقى الانزعاج الأكبر بشأن قوة أميركا وهدفها بظلالهما. هذه السياسة الجديدة في الشرق الأوسط هي تصحيحٌ ضروريٌّ للمسار، لكن النقاد في الداخل والخارج ربما لا يزالون يعتبرونها مُخَيِّبة للآمال.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه: gabrielgtabarani.com أو عبر تويتر على:  @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى