لبنان: في زهدِ “السنّية السّياسيّة”!

محمّد قوّاص*

أن تعزِفَ “السنيّة السياسية” التقليدية في لبنان عن الترشّح للانتخابات النيابية المقبلة، فالأمر قد يكون منطقيًا في مساره، بديهيًا في مآلاته. وسواء تعلّق الأمر بسعد الحريري وربما أسماء أخرى هي جُزءٌ أو كانت جُزءًا من تجارب الحكم، فإن القرار ليس وليد مَزاجٍ انفعالي نزق، بل يستند الى معطيات ووقائع لا ترى لتلك “التقليدية” مكانها الذي عرفته منذ الاستقلال.

ولئن يدعو الأكاديمي والوزير السابق غسان سلامة إلى الإقرار بنهاية “لبنان القديم” (وعدم الاستغراق في نوستالجيا تتوسّل العودة إليه) كمدخلٍ للتفكير في بناءِ لبنانٍ جديد، فإنه بات لزامًا على “السنيّة السياسية” الاعتراف بانتهاء حقبة بدأت ملامح اندثارها تظهر منذ اغتيال رفيق الحريري في العام 2005. وعلى هذا، فإنه قد يكون لذلك التنحّي وظائف وطنية تنطوي على قرارٍ بالتوقّف عن الانتماء إلى منظومةٍ حاكمة، تعمل حتى إشعار آخر وفق الأجندة الدقيقة للحاكم في طهران، وقد لا يكون في المقابل له أي مفاعيل ناجعة.

وربما أن سعد الحريري ما زال يستطيع ترؤّس كتلة نيابية هي الأكبر سنّيًا في مجلس النواب المقبل، حتى لو ازدادت تلك الكتلة تقلّصًا. غير أن الرجل الذي لا يحظى بالرعاية العربية الراجحة، ولا يبدو أنه ما زال خيارًا دوليًا مُتقَدِّمًا، لا يملك وكتلته وتياره إحداث فرقٍ في تمارين الحكم، أيًّا كان ما يتحقق من مكاسب محتملة في الانتخابات. ناهيك عن أن الأوزان البرلمانية، كما تُكرّر قيادات “حزب الله”، لن تُقرّر مصير البلد، وأن لحكم البلد وصفات وحيثيات أخرى.

والحقيقة أن “السنّية السياسية” أخذت أبعادًا جديدة مع ظهور رفيق الحريري لم تكن تعرفها قبله. توزّعت زعامة السنّة قبل الحرب الأهلية في البلد وأثناءها على واجهات محلية، تربّعت زعامتها على تجمّعاتٍ مُتباعدة ما بين جهات البلد. صحيح أن شخصيات عديدة، ومنها مُعتَبَرة واستثنائية، تولّت رئاسة الحكومة، بصفتها موقع السنّة الأول في نظام الحكم، إلّا أنه لم يصدف أن تزعّمت شخصية واحدة زعامة السنّة في كل لبنان كما فعل رفيق الحريري.

والأرجح أن الرياح الإيديولوجية التي عصفت بالمنطقة بعد تشكّل الكيان اللبناني وما واكبه من تحفّظ وتبرّم للمزاج السنّي ضد قيام دولة لبنان المستقلة، والحمم التي نفختها البراكين العروبية التي جسّدتها الناصرية والبعثية ودوائرهما، والصدمة البنيوية التي أحدثتها “النكبة” في الوجدان العام في المنطقة، كل ذلك جعل من السنّة كتلة سياسية اجتماعية مُتنوّعة الولاءات محليًا، مجتمعةً على ولاءات من خارج الحدود. كما أن شكل الحكم الذي رسمته “المارونية السياسية” منذ دستور الاستقلال و”ميثاقه” لم تنتج لدى النخب السنّية وجمهورها دينامية لبننة بإمكانها إنتاج “سنيّة سياسية” بالمعنى المؤسسي، على النحو الذي أنجزه رفيق الحريري بالنهل من ظرفٍ تاريخي وجيوسياسي نادر.

وعلى النقيض مما يعوّل عليه سمير جعجع، زعيم حزب “القوات اللبنانية”، من تغيير من خلال الانتخابات المقبلة، فإن سعد الحريري ونادي رؤساء الحكومات السابقين (وكان تمام سلام سبّاقاً في إعلانه الزهد بأي ترشح) باتوا، بحكم التجربة المرّة، يدركون أن التمرين البرلماني ليس مدخلًا لأيِّ تغيير، على الرغم مما يدفع به الإفلاس التاريخي للبلد وحراك الناس وكارثة مرفإِ بيروت من حاجة ملحة لهذا التغيير. وفي الذاكرة أن الانتصار الذي تحقق لقوى “14 آذار” (و”تيار المستقبل” بالذات) في انتخابات 2009 أطاحته ببساطة قوى السلاح من دون أن يرفّ جفن المجتمع الدولي.

والجدل يمكن أن يدور طويلًا حول ما يجب أن تسلكه “السنيّة السياسية”، التي ما زالت الحريرية السياسية بوصلتها وربّانها، من خيارات. في البال أن سقوط “السنّية السياسية” هو إعلان هزيمة ونذير اندثار أمام الأمر الواقع الذي تفرضه إيران من خلال “حزب الله”، وليس فعل مواجهة وتحدّ وإحراج. وفي البال في المقابل أن الاستمرار في الانخراط في العملية السياسية وفق قواعد الحكم التي يفرضها “حزب الله” وتحالفاته، والتي خبرها البلد منذ العام 2005 (أي منذ انسحاب القوات السورية)، وخصوصاً مع رئاسة ميشال عون للبلد، هو تمديدٌ لشرعية “الأمر الواقع” الذي ينهل مشروعيته من مشاركة كل القوى السياسية الوازنة ولو شكليًا في الحكم.

ابتعاد الحريري الإبن عن خوض الانتخابات و”تعليق عمله في الحياة السياسية” قد ينهي وجود “سنيّة سياسية” شاملة لم تولد إلّا مع الحريري الأب. وإذا ما جرت تلك الانتخابات، فإن مقاعد السنّة في البرلمان، وفي غياب “تيار المستقبل” وزعيمه ستتوزع، وفق ما كان متعارفاً عليه منذ الاستقلال، على فسيفساء مناطقية لا تمتلك عصبًا وعصبية واحدة، ولن تشكّل كتلة لها كيانها ومشروعها. وسيتوزع التمثيل السنّي بدوره على تشكّلات سياسية طائفية أخرى ما زالت في ما يمثله الثنائي الشيعي والعونية والجنبلاطية والقواتية، تمتلك تقليدية سياسية مُتجذّرة ومستمرة.

على أن أمر “الاعتكاف” الذي تمارسه بارونات التمثيل السنّي، والذي سينتج نظريًا مأزقًا ميثاقيًا، لن يمنع قانونًا من استئناف عملية سياسية بمَن حضر. وتاريخ لبنان الحديث يتذكّر بسهولة أن تهميش “المارونية السياسية” بمعناها التقليدي القديم من قبل سلطة الوصاية السورية لم يمنع من إنتاجِ سلطاتِ حكم قامت على تعدّد البرلمانات والحكومات ورئاسات الجمهورية، وأن أمر ذلك لم يتغيّر إلّا بحدث دراماتيكي كبير غيّب رفيق الحريري وأنهى وجود القوات السورية في البلد.

غير أن الثابت أن قيام “الطائف” تطلّب تهميشًا لـ”مارونية” ذلك الزمن، وأن تغير شكل الحكم في لبنان، بما في ذلك دفن “الطائف”، يتطلب تهميش “سنّة” هذا الزمن. والثابت أيضاً أن توقيع “السنيّة السياسية” على بيان نعيها هو نتاج ما حققته الاستراتيجيات الإيرانية في المنطقة منذ قيام الجمهورية الإسلامية، وخصوصاً منذ سقوط بغداد في العام 2003، والذي قاد إلى السيطرة على قرار أربع عواصم عربية، بما فيها بيروت، وقاد أيضًا إلى تقهقر النفوذ العربي في العراق وتهديده في اليمن والحلول مكانه في سوريا وانسحابه الطوعي من لبنان.

وسواء كان قرارُ “الحَرَد” ذاتيًا محليًا أو خارجيًا مطلوبًا، فإن الأمر يُشكّل مُنعطَفًا يدفع إلى ولادة “لبنان آخر”، سواء من خلال مؤتمرٍ تأسيسي أم تعديل دستوري أم فذلكات جديدة لإدارة البلد على ما طالب به الرئيس ميشال عون أخيراً. وإذا ما كان انتقال البلد من طورٍ إلى طور يتطلب جراحات أهلية، شهد البلد بعض نماذجها الدموية في السنوات الأخيرة، فإن ذلك التحوّل لا يمكن أن يتحقق من دون الاهتداء إلى نظامٍ إقليمي دولي يرعاه ويصوّبه ويهذبه. والأرجح أن رسم خرائط المنطقة وموقع طهران ودمشق داخلها، كما مآلات صراع الغرب المُعقّد مع روسيا والصين، سينعطف على موقع العرب وقوة نفوذهم في التأثير في مجريات مستقبل لبنان ومصيره.

بناءً على ذلك السياق، فإن أسئلة تدور حول الحكمة من حَرَدِ وعزوف وزهد من دون أي خطة طريق، ومن دون إدراج الأمر في صورة أعمّ وأشمل. ثم ماذا يعني أن يسقط السنّة هيكلهم السياسي التقليدي، وهو أمرٌ قد يكون مُفيدًا جدلًا إذا ما كان القصد إتاحة الساحة لجيلٍ جديد (كما جاء في بيان عزوف تمام سلام)، وإذا ما كان يدفع لبروزِ جيلٍ جديد على مستوى كل طوائف لبنان، فيما ستبقى هياكل البلد المسؤولة أيضاً عن مأساة البلد مُمسكة بقرار لبنان وحكوماته؟ ثم كيف لهذا “التخلي” عن المسؤولية (وهو أمرٌ له روائح الحرد من حلفاء الخارج و”معاقبتهم”) أن يُحرِجَ طهران وحزبها في لبنان، ويُضعف قبضتها المُمسكة برقبة البلد؟ وكيف لذلك “الاستسلام” أن يكون داعمًا لمن ما زال في لبنان لا يريد الاستسلام ويرفع الصوت لرفع الهيمنة (احتلالًا أو خطفًا) عن لبنان؟

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “النهار العربي” (بيروت)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى