رئيسي إلى الإمارات… رسائل الحوثي من طهران

محمّد قوّاص*

يُشكِّلُ هجوم ميليشيا الحوثي على الأراضي الإماراتية تطوّرًا مَفصَلِيًّا في مشهدِ الصراعِ المُتعلِّق باليمن. يُمثّلُ الحَدَث خرقًا لخطوطٍ جديدة (إقليمية ودولية) لا يُمكن للميليشيات أن تُقدِم عليها من دونِ حاضنةٍ خارجية لها حساباتها. والأمر يعبّر أيضًا عن أوجاعِ انقلابِ الموازين العسكرية ضد الحوثيين في اليمن وسعي تلك الميليشيات إلى تعديل تلك الموازين من خارج البلاد ومسرح المعارك.

وبغضِّ النظر عن سيناريوات عملية الهجوم التي استخدمت المُسيَّرات (والصواريخ البالستية والمُجنَّحة بحسب بيان الحوثيين) وحقيقة مكان انطلاقها وخرائط خطّ سيرها، وبغضّ النظر عما أطلقه الحوثيون من تهديدات بشنّ هجماتٍ لاحقة ضد مدن ومواقع إماراتية أخرى، فإن التطوّرَ، وإن حمل سمات حوثية يتم التعامل معها سرياليًا وفق هذا المعطى، لا يُمكن أن يُنجَز من دون ضوء أخضر إيراني، وربما بأوامر واضحة من مصدر ما في طهران إذا ما أردنا جدلاً عدم اتهام الدولة بكليّتها هناك.

ولئن صمت الجانب الإيراني في الساعات الأولى التي تلت الهجوم، فإن الحوثيين خرجوا من إيران (وهذا بحدّ ذاته مؤشّر إيراني)، وبلسان المتحدث باسمهم محمد عبد السلام الموجود في طهران، لتأكيد وقوف الجماعة خلف العملية، لا بل التوعّد بالاستمرار بشنِّ هجماتٍ جديدة. وليس تفصيلًا أن يتصادف توقيت الهجوم على الإمارات مع وجود الرجل في إيران بما يمثّل رسالة إيرانية لا لبس فيها. وتُشبه إطلالة الحوثيين ضد الإمارات من منابر إيرانية في طهران خروج تجمّعٍ مُعارض ضد السعودية قبل أيام من منابر إيرانية أخرى يمثلها “حزب الله” في الضاحية الجنوبية لبيروت في لبنان.

والحال أن إيران تُقارِبُ ملفّاتها وأزماتها على قاعدة خريطة واحدة تشمل كل “الجبهات”. ولا يُمكن في علم السياسة الجيوستراتيجية عزل الهجوم ضد الإمارات من قبل ذراع إيران في اليمن عن تطوّر المفاوضات حول البرنامج النووي في فيينا. لا بل إن انخراط الولايات المتحدة وشركائها بتلك المفاوضات أبعد بطريقة لافتة عن طهران تهمة التواطؤ في ما اقترفه الحوثيون ضد الإمارات، بحيث لم يتمّ توجيه أي ملامة واتهام رسميَين ضد إيران. حتى أن صحيفة “وول ستريت جورنال” أقحمت في مقالة لها بشأن الحدث تصريحًا نقلته عن “مسؤول أميركي” يُبرِّئ إيران من أيِّ تورّطٍ في هذا الهجوم.

والواضح أن الحوثيين ومن ورائهم إيران يستنتجون حتمية تقهقرهم المقبل على كل الجبهات. وما أنجزته قوات الجيش اليمني وألوية العمالقة وغيرها من قوات تابعة لوزارة الدفاع اليمنية في جبهات مأرب وشبوة ومناطق أخرى، يشي بمآلات المعارك العسكرية اللاحقة التي ستطال أعماقًا حوثية موجعة. والواضح أيضًا أن الحوثيين الذين عوّلوا طويلًا على سقوط مأرب قبل العبور إلى أيِّ تسوية، باتوا أبعد من أيّ عملية سياسية يمكن أن يحملهم إليها إنجازٌ عسكري.

ولئن توحي بيانات الحوثيين بأن فعلتهم هي ردّ على انقلاب الوضع الميداني في الأسابيع الأخيرة، منذ أن تدخّلت ألوية العمالقة القريبة من الإمارات، وباتت والجيش الوطني وبقية القوى التابعة للشرعية في خندقٍ واحدٍ بإسنادٍ من التحالف العربي، فإنه قد يصبح منطقيًا قيام القوات التابعة للشرعية في اليمن بضربِ أهدافٍ داخل إيران رداً على الدعم العلني الذي تُقدّمه طهران لتلك الجماعة. وعلى هذا يظهر تمتع إيران المستمر بميزة غياب أي ردّ يطال أراضيها، فيما ميليشياتها تعيث فساداً في المنطقة ضد دول المنطقة.

لكن الثابت أن خطيئة سياسية ارتكبها الحوثيون في حسابات تصدّى الموقف الدولي لها من دون تمهّل. حظيت أبو ظبي بالتفافٍ عربي وإقليمي ودولي شامل يؤكد الوقوف إلى جانب الإمارات. في المقابل، تلقّى الحوثيون وابلًا من الإدانة الحاسمة التي لم تحتمل نصوصها أيّ نسبية أو تأويل.

يوفّر الحدث مناسبة لتقديم الولايات المتحدة موقفًا واضحًا مُتضامنًا مع الإمارات ومؤكداً تقديم كل الدعم للدفاع عن أمن البلد. وجاءت لهجة واشنطن لتُمثّل تحوّلًا قد يرقى إلى مستوى مُراجعة الموقف الذي جاء به الرئيس جو بايدن، حين قرر وإدارته مقاربة الأزمة اليمنية من خلال رفع الحوثيين عن قوائم الإرهاب. والحال أنه من المفارقات الخبيثة أن تتعرّض دولٌ كالسعودية والإمارات، وهما جُزءٌ من المجتمع الدولي ومنظمة الأمم المتحدة، وهما حليفان تاريخيان للولايات المتحدة، إلى هجمات تشنّها ميليشيا غير شرعية من دون أن تدرجها واشنطن وحلفاؤها على لوائح الإرهاب، فيما تدرج بالمقابل “حزب الله” على تلك اللوائح. فما الفرق في تقييمات واشنطن ومعاييرها؟

الإمارات كما السعودية قبل ذلك اللتان تستهدفهما هجمات الحوثيين ليستا دولتين مُنعزلتين عن السياق الأممي، بل هما من الأعمدة الأساسية للنظام الدولي التي لا يُسمح المساس بأمنها كما في سيروراتها في الاقتصاد والطاقة وفلسفة العيش.

واللافت أنه في عزّ التوتر بين الغرب وروسيا في شأن أوكرانيا، والصراع الراهن بين الصين والولايات المتحدة، فإن كل العواصم الكبرى من بكين إلى واشنطن مرورًا بموسكو وعواصم أوروبا، أجمعت في حدثٍ إجماعي نادر على اتخاذ موقف واحد داعم للإمارات. ولئن تسرّب إيران شكل نظامها الإقليمي المتوخّى والمعوّل عليه إذا ما نضج الاتفاق النووي، فإن خطيئة الحوثيين أشعلت أضواءً حمراً حول أمن المنطقة والممرّات الدولية التي تُمنّي طهران النفس بالإمساك بمفاتيحها، لا سيما في ظلِّ تراخٍ غامض في الموقف الأميركي من هذا الأمر.

والواضح أن حاجة دول المنطقة إلى يقينٍ أمني لا يخضع لركاكة وتردّد وحسابات خاطئة (لاح كثير منها في واشنطن)، ستدفع المنطقة إلى إسقاط مقاربات أمن استراتيجي يتحكّم بها مزاج الحاكم في البيت الأبيض، لمصلحة بدائل أكثر صدقية وثباتًا، تحترم أبجديات التحالف، وتؤمن بالأهمية الاستراتيجية الكبرى لأمن منطقة ما زالت تُقرّر التوازنات في المشهد الدولي الكبير.

أوحت إيران خلال سنوات تعويلها على “انتصارٍ” حوثي بأنها تريد أن تكون شريكة في الحلّ اليمني على أساس ذلك. وتُوحي إيران في هجوم الحوثيين ضد الإمارات أنها ما زالت تُريد أن تكون شريكاً مُهَيمناً في أيّ حلّ، حتى حين يأفل أمل ميليشياتها في اليمن وتنهار خطوط جبهاتها. وفي توق طهران لجني المكاسب في كل الحقول تُعلن وسائل إعلام إيران عن عزم الرئيس إبراهيم رئيسي على القيام بزيارة للإمارات خلال الأسابيع المقبلة. نعم هذه قواعد الانفتاح على الجوار التي تحدّث عنها الرجل حين تُوِّجَ رئيسًا.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “النهار العربي” (بيروت)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى