العود سيّد الأوركسترا مع عبدالله المصري

يصدر هذا الأُسبوع “كونشرتو للعود”، وهو العمل الجديد لأحد أبرز المؤلّفين والموسيقيين اللبنانيين العرب الدكتور عبد الله المصري.

عبدالله المصري: تجديد في التأْليف

بروكسل – عمّار مروَه*

إذا كانت بدايات المعرفة في الأسئلة الصحيحة، فالأجدى بالنقد الموسيقي (أمام الأعمال الموسيقية الكبيرة والمركَّبة بأرقى فنون التجريد التي تتوسل الحداثة بأساليب التفكير السمفوني والكونشرتي) أن يبدأ بسؤال: “ماذا يربط الشكل (القالب) بالمضمون (التأليف)؟” وأن يبحث النقد في هذه العلاقة بالذات قبل الدخول في التفاصيل الفنية الأخرى. ففي حال الكونشرتو مثلًا، هل يقودنا سؤال القالب إلى سبب اختيار المؤلف هذه الآلة أو تلك ليكون المفتاح في فهم العمل؟ ولماذا مؤلفٌ موسيقي سمفوني عالمي مخضرم كالدكتور عبدالله هاني المصري (عضو جمعية المؤلفين الموسيقيين الروس الكبار) يختار آلة العود بالذات ليخوض بها عالم الكونشرتو؟ فالعود آلة نقر تراثية تنخرط لتقول روحها وتاريخها وسط آلات الأوركسترا السمفونية بأصعب أبواب التأليف المركب بعوالم الحداثة؟ هل كما اختار يواكيم رودريغو آلة نقر تراثية إسبانية أخرى (الغيتار) حين ابتكر “أَرانخويث”: أجمل كونشرتو لهذه الآلة حتى الآن؟

الجواب عند متابعي ريبيرتوار عبدالله المصري، أحد أبرز المؤلفين الموسيقيين اللبنانيين العرب وربما العالميين الكبار، في عمله على مشروع الحداثة في التأليف الموسيقي المجرد. فهو فَهِمَه بإخلاص كما لم يفهم مؤلفون كثيرون ارتباطاته المحلية وعلاقته بجذوره الموسيقية الشرق – عربية.

عالج عبدالله المصري مشروعه الموسيقي بدءًا من أصغر جُزَيئاته المتعلقة باختيار مسافات صوتية جَمَعَها من جُزَيئات مقامَي الحجاز والكرد، وكوَّنَ بمزجهما المبتكر لغةً خاصةً به لم يَحِدْ  عنها في كل ريبيرتواره أفقيًا وعموديًا.

بِلُغَتِهِ الجديدة هذه ابتعد المصري عن أساليب التفكير الآتونالي (انعدام الركوز اللحني)، دون أن يخشى التنافر في لغته الدياتونية. بل هو تعمَّد أن تأتي معظم مؤلفاته واضحة في انتمائها إلى عالم الشرق، وفي ابتعادها أيضًا عن الاستسلام للمدرسية في أسلوب تفكيرٍ يقلد تقنيات الغرب ويدير ظهره لخلفيته وتراثه وثقافته وشعبه.

مع هذا التوضيح يمكن الدخول إلى العمل من باب الخاص (خيار دخول العود عالَمَ الكونشرتو بحداثةٍ فيها خلاص الروح من الجمود والتقوقع) إلى العامّ القاسي الذي يواجهه مؤلف عالمي من طراز المصري، ويؤَدِّيه عازف مقتدر من طراز سمير نصرالدين.

هكذا دخلا معًا لتوضيح العلاقة بين العام والخاص في مفهوم المصري بالكتابة للتأليف الموسيقي، أيًّا تكُن أداة التنفيذ على أساس استراتيجية البناء الدرامي. وهنا حضور واضح لأصداء الموسيقى اللبنانية العربية.

وهكذا تتضح قوانين موسيقية صاغها المصري منذ أَوّل أعماله، كاللغة الهارمونية المبنية على استخدام نظام التآلف الواحد مع تنويع أبعاده، وهو ما يخدم ألوان الكتابة (قد يبدو حينًا دياتونيكًا، وحينًا تنافريًّا)، وقد يستخدم جُزَئيات المقامات الشرقية واستنباط مقامات رديفة. وهنا يتضح اهتمام المصري الجميل بتنويع التقبُّل السمعي من سلس شفاف رومنسي إلى عدائي، عبر تكثيف الحبكة الكتابية دون تنازل عن شفافيتها اللحنية موسيقيًا، حتى عند تشابك جمله الموسيقية وتعقدها.

إنه عمل تراجيدي غير متفائل، ينتهي برحلة موت طويلة عند هدوء الفناء!

ولا يمكن تجاهُلُ دور العازف المنفرد سمير نصرالدين، فهو خدم التأليف بأمانة أدائه وغناء طربي للأجزاء الموتيفية الصغيرة، فجعلها تنبض بروح العود، ووازن بين رصانة أداء الفكرة وحرية ارتجال الألحان لتبدو تلقائية، فنصَّع هذا العمل بتقنيات عزف عالية ليبدو هذا العمل أكثر رشاقة وسهولة، فوقف العود متحديًا آلات الأوركسترا السيمفونية كآلة بطلة، بفضل المؤلف والمؤدي، كأنه يقول لها في هذا الكونشرتو متباهيًا: “ها أنذا، لست مجرد آلة نقر تراثية، بل يمكنني أن أكون أجملكم وأقواكم”.

  • عمّار مروّه هو كاتب وصحافي لبناني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى