الصراع الروسي – الأوكراني الى أين؟

أعلنت واشنطن وموسكو عن محادثات ثنائية ستجري في جنيف في العاشر من الشهر الجاري بين نائبة وزير الخارجية الأميركي ويندي شيرمان ونائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف لمناقشة الأزمة في أوكرانيا. كما ستُتابَع المناقشات في 12 كانون الثاني (يناير) 2022 في إطار اجتماعات روسيا – الحلف الاطلسي في منظمة الأمن والتعاون في أوروبا.

الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي: دعمه بايدن ولكن من دون تورط عسكري

السفير يوسف صَدَقة*

مع اقتراب العام 2021 من نهايته، قدمت روسيا للولايات المتحدة قائمة بالمطالب التي قالت إنها ضرورية لدرء احتمال نشوب صراع عسكري واسع النطاق في أوكرانيا. في مسودة معاهدة سُلِّمَت إلى ديبلوماسي أميركي في موسكو، طالبت الحكومة الروسية بوقفٍ رسمي لتوسيع حلف شمال الأطلسي (الناتو) شرقًا، وتجميدٍ دائم للتوسّع الإضافي للبنية التحتية العسكرية للتحالف (مثل القواعد وأنظمة الأسلحة) في الأراضي السوفياتية السابقة، وإنهاء المساعدة العسكرية الغربية لأوكرانيا، وفرض حظر على الصواريخ متوسطة المدى في أوروبا. كانت الرسالة واضحة: إذا لم يكن بالإمكان معالجة هذه التهديدات ديبلوماسيًا، فسيتعيّن على الكرملين اللجوء إلى العمل العسكري.

كانت هذه المخاوف مألوفة لدى صانعي السياسة الغربيين، الذين استجابوا لسنواتٍ بالقول إن موسكو ليس لديها حق النقض (الفيتو) على قرارات “الناتو”، وأنه ليس لديها أساس لمطالبة الغرب بالتوقّف عن إرسال الأسلحة إلى أوكرانيا. حتى وقت قريب، وافقت موسكو على مضض على هذه الشروط. الآن، ومع ذلك، يبدو أنها مصممة على متابعة الإجراءات المُضادة إذا لم تحصل على ما تريد. وقد انعكس هذا التصميم في كيفية تقديمها للمعاهدة المُقترَحة مع الولايات المتحدة واتفاقية منفصلة مع “الناتو”. كانت لهجة كلا الخطابين حادة. لقد مُنح الغرب شهرًا واحدًا فقط للرد، ما أدّى إلى التحايل على إمكانية إجراء محادثات مطوّلة وغير حاسمة. وتم نشر المسودتين بعد تسليمهما مباشرة تقريبًا، وهي خطوة كانت تهدف إلى منع واشنطن من تسريب الاقتراح وتدويره.

إذا كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يتصرّف كما لو كان له اليد العليا في هذه المواجهة، فذلك لأنه يعمل من أجل ذلك. وفقًا لأجهزة المخابرات الأميركية، هناك ما يقرب من 100,000 جندي روسي وقدرٌ كبير من الأسلحة الثقيلة المُتمركزة على الحدود الأوكرانية. أدانت الولايات المتحدة ودول أخرى في حلف شمال الأطلسي تحركات روسيا، لكنها أشارت في الوقت نفسه إلى أنها لن تُدافع عن أوكرانيا، وهي ليست عضوًا في “الناتو”، وحصرت تهديداتها بالانتقام من خلال العقوبات.

لكن مطالب موسكو ربما تكون محاولة افتتاحية وليست إنذارًا نهائيًا. على الرغم من إصرارها على معاهدة رسمية مع الولايات المتحدة، فإن الحكومة الروسية تُدرك بلا شك أنه بفضل الاستقطاب والجمود، فإن التصديق على أيّ معاهدة في مجلس الشيوخ الأميركي سيكون شبه مستحيل. قد تكون الاتفاقية التنفيذية – وهي في الأساس اتفاقية بين حكومتين لا يُلزم المصادقة عليها وبالتالي لا تتمتّع بوضع القانون – بديلًا أكثر واقعية. ومن المحتمل أيضًا أنه بموجب مثل هذا الاتفاق، ستتحمل روسيا التزامات متبادلة تعالج بعض مخاوف الولايات المتحدة من أجل إنشاء ما تسميه “توازن المصالح”.

على وجه التحديد، يُمكن أن يشعر الكرملين بالرضا إذا وافقت الحكومة الأميركية على تعليقٍ رسمي طويل الأجل لتوسيع “الناتو” والتزام بعدم نشر صواريخ متوسطة المدى في أوروبا. قد يتم تهدئته أيضًا من خلال اتفاق منفصل بين روسيا وحلف شمال الأطلسي من شأنه أن يُقيّد القوات العسكرية والنشاط في المناطق التي تلتقي فيها أراضيهما، من بحر البلطيق إلى البحر الأسود.

بالطبع، السؤال مفتوح عما إذا كانت إدارة بايدن مستعدة للتعامل بجدية مع روسيا. ستكون معارضة أي صفقة مرتفعة وعالية في الولايات المتحدة بسبب الاستقطاب السياسي الداخلي، وحقيقة أن إبرام صفقة مع بوتين سيضع إدارة بايدن أمام انتقادات حادة بأنها تخضع لحُكمٍ مُستَبد. وستكون المعارضة عالية أيضًا في أوروبا، حيث سيشعر القادة أن تسوية تفاوضية بين واشنطن وموسكو تتركهم على الهامش.

هذه كلها قضايا خطيرة. لكن من المهم أن نلاحظ أن بوتين قد ترأس أربع موجات من توسع “الناتو” وكان عليه أن يقبل انسحاب واشنطن من المعاهدات حول الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية والقوات النووية متوسطة المدى وطائرات المراقبة غير المسلحة. بالنسبة إليه، أوكرانيا هي الموقف الأخير. يحظى القائد العام الروسي بدعم مؤسساته الأمنية والعسكرية، وعلى الرغم من خوف الجمهور الروسي من اندلاع حرب، لا يواجه أي معارضة داخلية لسياسته الخارجية. الأهم من ذلك، أنه لا يستطيع تحمّل أن يُرى وهو يُخادع. كان بايدن مُحقًّا في عدم رفضه لمطالب روسيا تمامًا وتفضيل المشاركة بدلًا من ذلك.

خطوط بوتين الحمراء

هناك تفاوت كبير في الأهمية التي يعزوها الغرب وروسيا لأوكرانيا. لقد قام الغرب بالفعل بتوسيع آفاق عضوية “الناتو” إلى البلاد في العام 2008، ولكن بدون جدول زمني رسمي للقبول. بعد العام 2014 – عندما استولت روسيا على شبه جزيرة القرم من أوكرانيا وبدأت في دعم المُسلّحين الموالين لروسيا في منطقة دونباس في البلاد – أصبح من الصعب رؤية كيف ستسمح الحكومة الأميركية لأوكرانيا بالانضمام إلى “الناتو”. بعد كل شيء، لن يكون هناك دعم شعبي كبير في الولايات المتحدة لنشر قواتٍ للقتال من أجل أوكرانيا. واشنطن مُثقَلة بوعد كييف حيث يَعرِفُ كلا الجانبين أنه لا يمكنها الوفاء به. على النقيض من ذلك، تتعامل روسيا مع أوكرانيا باعتبارها مصلحة حيوية للأمن القومي وقد أعلنت عن استعدادها لاستخدام القوة العسكرية إذا كانت تلك المصلحة مُهدَّدة. هذا الانفتاح على الالتزام بقواتٍ عسكرية والقرب الجغرافي من أوكرانيا يمنحان موسكو ميزة على الولايات المتحدة وحلفائها.

هذا لا يعني أن الغزو الروسي لأوكرانيا وشيك. على الرغم من ميل وسائل الإعلام الغربية إلى تصوير بوتين على أنه مُتهوِّر، إلّا أنه في الحقيقة حذرٌ وحذرٌ جدًا، لا سيما عندما يتعلق الأمر باستخدام القوة. بوتين لا ينفر أو يتهرّب من المخاطرة – العمليات في الشيشان، القرم، وسوريا دليل على ذلك – لكن في رأيه، يجب أن تفوق الفوائد التكلفة. لن يغزو أوكرانيا بسبب توجّهات قادتها الغربية.

ومع ذلك، هناك بعض السيناريوهات التي يُمكن أن تحثّ الكرملين على إرسال قوات إلى أوكرانيا. في العام 2018، أعلن بوتين علنًا أن محاولة أوكرانية لاستعادة الأراضي في منطقة دونباس بالقوة ستُطلق العنان لردّ عسكري. هناك أسبقية تاريخية لهذا: في العام 2008، ردّت روسيا عسكريًا على هجوم جورجيا على جمهورية أوسيتيا الجنوبية الانفصالية. خطٌّ أحمر روسي آخر هو انضمام أوكرانيا إلى “الناتو” أو وضع قواعد عسكرية غربية وأنظمة أسلحة بعيدة المدى على أراضيها. لن يتنازل بوتين عن هذه النقطة. لكن في الوقت الحالي، لا يوجد دعم تقريبًا من الولايات المتحدة وأعضاء “الناتو” الآخرين لأوكرانيا للإنضمام إلى الحلف. في أوائل كانون الأول (ديسمبر) 2021، أخبر مسؤولو وزارة الخارجية الأميركية أوكرانيا أنه من غير المرجح أن تتم الموافقة على عضويتها في “الناتو” في العقد المقبل.

إذا قام الناتو بتعزيز قواته في الدول الأعضاء الشرقية، فقد يؤدي ذلك إلى زيادة عسكرة الخط الفاصل الجديد في أوروبا الممتد على طول الحدود الغربية لروسيا وبيلاروسيا. يمكن استفزاز روسيا لوضع المزيد من الصواريخ قصيرة المدى في كالينينغراد – الجزء غير المتجاور الواقع في أقصى غرب روسيا والذي يقع بين بولندا وليتوانيا. يمكن لتحالف عسكري أوثق مع بيلاروسيا أن يفرض مزيدًا من الضغط على أوكرانيا. كما يمكن لموسكو أيضًا الاعتراف بـ “الجمهوريات الشعبية” في دونيتسك ولوهانسك ودمجها في كيانٍ جيوسياسي جديد مع روسيا وبيلاروسيا.

قد يتردد صدى الآثار الجيوسياسية لهذه التطورات خارج أوروبا. لمواجهة العقوبات الاقتصادية والمالية الغربية الأكثر صرامة، إما تحسّبًا لتوغل روسي في أوكرانيا أو نتيجة لذلك، قد تحتاج موسكو إلى الاعتماد على بكين، التي تجد نفسها أيضًا تحت ضغط أميركي متزايد. يناقش الرئيسان بوتين وشي جين بينغ بالفعل الآليات المالية لحماية بلديهما من العقوبات الأميركية. في هذه الحالة، قد تكون زيارة بوتين المقررة للصين لحضور دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في شباط (فبراير) 2022 أكثر من مجرد زيارة مجاملة. يمكن للولايات المتحدة بعد ذلك أن ترى الوفاق الحالي بين الصين وروسيا يتحوّل إلى تحالفٍ أكثر إحكامًا، حيث قد يصل التعاون الاقتصادي والتكنولوجي والمالي والعسكري بين القوتين إلى مستويات جديدة.

كيف ارتفعت حدّة الصراع

زاد الصراع الروسي-الأوكراني حدّة بعد ضمّ موسكو شبه جزيرة القرم الى الاتحاد الروسي، ودعم الانفصاليين الاوكرانين في شرق اوكرانيا في العام 2014، اي في منطقة دونباس. ولم تُطَبَّق حتى الآن إتفاقية مينسك التي هدفت الى نزعِ فتيل النزاع بين البلدين لغياب الإرادة الجدية عند الطرفين لتنفيذها، بالإضافة إلى عدم الاهتمام الدولي الجدي لحلّ النزاع.

في المقابل فإن السياسة الخارجية الروسية التي يشرف عليها الرئيس بوتين شخصياً، تقوم على الغموض البنّاء. فالاستراتيجية الروسية لم تتغير منذ احتلال روسيا شبه جزيرة القرم في العام 2014. والمناورات العسكرية قرب الحدود الأوكرانية تحمل أكثر من هدف، تبدأ من تسليط الضغوط الجدية على أوكرانيا، وعلى الحلف الاطلسي. لذا تبدو اوكرانيا امام تحدٍّ جديد على الصعيد الدولي، وهو منع روسيا من التوغّل في اراضيها، والدفاع عن استقلالها السياسي في حقها السيادي في الانضمام الى الحلف الاطلسي.

الضغوط الاميركية والأوروبية

تشمل العلاقات الاميركية – الروسية مناطق نزاع في إيران، سوريا، الحرب السيبرانية وغيرها. والولايات المتحدة تدعم أوكرانيا على الصعد السياسية والاقتصادية والعسكرية، كما تتلقى الدعم من الاتحاد الاوروبي وكندا. وإزاء إصرار موسكو على الحصول على ضمانات بعدم انضمام اوكرانيا الى الحلف الاطلسي، يبدو أن واشنطن لا تُبدي استعدادًا لإعطاء ضمانات في الوقت الحاضر، لأن ذلك يحدّ من قدرة اوكرانيا على أن تكون لها سياسة خارجية مستقلة.

هذا وقد أكدت جين بساكي المتحدثة بإسم البيت الابيض، بان دول اعضاء “الناتو” هي التي تقرر من يكون بين اعضائها، وليس روسيا. فآلية الانضمام الى “الناتو”، كانت وستبقى وفق النظام الأساسي للحلف. ويعتبر الغرب بأنه اذا ما خضع للضغوط الروسية، سيمكن ذلك الكرملين، من فرض شروطه على الدول الغربية في المستقبل. وقد هددت الولايات المتحدة وأوروبا بعقوبات قاسية على روسيا في حال هاجمت أوكرانيا.

تجدر الاشارة الى ان العقوبات تصاعدت في العام 2014، إثر ضم روسيا شبه جزيرة القرم. وقد أثّرت العقوبات في نمو الاقتصاد الروسي وعلى الصادرات الى الخارج. كما جمّدت عضوية روسيا في مجموعة الدول الثماني، إلّا أن هذه العقوبات لم تُغيّر سياسة بوتين.

على صعيد الاستراتيجية الأمنية الروسية، فإن موسكو تعتبر توسّع حلف “الناتو” على حدودها يمثل تهديدًا وجوديًا لروسيا، وإن أي تحرّك لدول الغرب على الحدود الروسية هو تهديد للأمن القومي الروسي. كما حذر الكرملين من العقوبات المفروضة على روسيا واعتبرها خطأ جسيمًا.

روسيا ودول الجوار

منذ انهيار الإتحاد السوفياتي، دعمت روسيا الحركات الانفصالية على حدودها، وقد ساندت الانفصاليين في مالدوفا عبر انشاء ما يسمى دولة “ترانسنيستري” (TRANSNISTRIE) منذ 1990 على الحدود بين روسيا ومالدوفا. كما دعمت الانفصاليين في أوسيتيا وأبخازيا، المقاطعتين التابعتين لجورجيا. كما هاجمت جورجيا في العام 2008، لدى قيام الرئيس الجورجي السابق ميخائيل ساكاشفيلي بهجوم عسكري لاستعادة أبخازيا.

تجدر الاشارة إلى أن جورجيا ومالدوفا لديهما اتفاقات شراكة مع الاتحاد الأوروبي، مع حرية دخول الاشخاص. من هنا فإن الموقف الروسي يجعلهما في موقع ضعيف لا يؤهلهما للإنضمام إلى الحلف الاطلسي.

والسؤال الذي يُطرَح: إلى أين يذهب الغربيون في صراع القوة مع موسكو، حيث تفرض “حق المعاينة” (Droit de regard) على أوكرانيا، والتي تعتبرها حيوية بالنسبة للأمن القومي الروسي؟ والإشكالية لدى الاوروبيين هي كيفية تأمين الدعم السياسي والاقتصادي والعسكري لاوكرانيا، من دون المواجهة المباشرة مع موسكو.

الجهود الديبلوماسية لاحتواء النزاع

أجرى الرئيس جو بايدن إتصالًا هاتفيًا مع الرئيس فلاديمير بوتين في 7/12/2021، حذّر فيه الرئيس الاميركي نظيره الروسي من اجتياح أوكرانيا، وهدّد بعقوبات اقتصادية قاسية. وقد اعتبر الرئيس بوتين ان المحادثات مع الرئيس الاميركي كانت جدية وبنّاءة. وقد هدد بايدن الرئيس الروسي في 30/12/2021 من القيام باجتياح أوكرانيا، معتبراً ان المبادرة إلى الهجوم تُشكل خطأ قاتلًا .

وقد عبّر الرئيس الروسي عن ارتياحه للمكالمة واعتبر ان المحادثة كانت جدية، وقد اتفق الزعيمان على أن الحلّ الديبلوماسي هو الأفضل للخروج من الأزمة.

كما أعلنت الناطقة بإسم البيت الأبيض جين باسكي ان أي تقدّم ديبلوماسي، يمرّ عبر خفض التوتر مع أوكرانيا، وانه ستكون لواشنطن ردّة فعل مدوية، إذا ما اجتاحت روسيا  أوكرانيا.

هذا وقد أعلن الطرفان الروسي والاميركي عن محادثات ثنائية ستجري في جنيف، في 10/1/2022 بين نائبة وزير الخارجية الأميركي ويندي شيرمان ونائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف.

وستُتابَع المناقشات في 12 كانون الثاني (يناير) 2022 في إطار اجتماعات روسيا – الحلف الاطلسي في منظمة الأمن والتعاون في أوروبا.

وهذا وقد أعلن وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف، أنه ليست هناك تنازلات روسية في محادثات جنيف حول الأمن الروسي. أما الأمين العام لحلف شمال الأطلسي “ينس ستولتنبرغ”، فقد أقرّ اجراءات عسكرية إضافية لتعزيز القرارات الدفاعية لأوكرانيا.

الصراع الروسي – الأوكراني إلى أين؟

يأتي تهديد بوتين باللجوء إلى القوة من إحباطه من تعثّر العملية الديبلوماسية. جهود الكرملين لإغراء الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لإبرام صفقة بشأن دونباس – والتي بدت واعدة أخيرًا في أواخر العام 2019 – باءت بالفشل. زيلينسكي، الذي فاز بالرئاسة بأغلبية ساحقة كمُرشَّح سلام، هو زعيم غريب الأطوار بشكل استثنائي. أدى قراره باستخدام طائرات مسيّرة في دونباس في العام 2021 إلى تصعيد التوترات مع موسكو في وقت لم تكن أوكرانيا قادرة على تحمّل استفزاز جارتها.

ليست القيادة الأوكرانية وحدها هي ما تعتبره موسكو إشكالية. فقد فشلت جهود فرنسا وألمانيا للتوصل إلى حلٍّ ديبلوماسي للمأزق الروسي-الأوكراني. لم يحقق الأوروبيون، الذين كانوا ضامنين لاتفاقية مينسك لعامي 2014 و2015 التي كان من المفترض أن تجلب السلام إلى المنطقة، نجاحًا في دفع الأوكرانيين إلى إبرام الإتفاقية. لم يستطع الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير، الذي كان وزيرًا للخارجية آنذاك، حتى إقناع كييف بقبول حل وسط كان سيسمح بإجراء انتخابات في منطقة دونباس. في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، ذهب الروس إلى حد نشر مراسلات ديبلوماسية خاصة بين وزير خارجيتهم، سيرغي لافروف، ونظيريه الفرنسي والألماني لإظهار كيف انحازت القوى الغربية بالكامل لموقف الحكومة الأوكرانية.

وعلى الرغم من أن التركيز في الغرب كان على حشد القوات الروسية بالقرب من الحدود الأوكرانية، فقد جاء ذلك في الوقت الذي وسعت دول الناتو أنشطتها العسكرية في منطقة البحر الأسود وفي أوكرانيا. في حزيران (يونيو)، أبحرت مدمرة بريطانية عبر المياه الإقليمية قبالة شبه جزيرة القرم، والتي لا تعترف لندن بأنها تابعة لروسيا، ما دفع الروس لإطلاق النار في اتجاهها. في تشرين الثاني (نوفمبر)، حلقت قاذفة استراتيجية أميركية على بُعدِ 13 ميلًا من الحدود الروسية في منطقة البحر الأسود، ما أثار حفيظة بوتين. مع تصاعد التوترات، تدفّق من الغرب المستشارون العسكريون والمدربون والأسلحة والذخيرة على أوكرانيا. يشك الروس أيضًا في أن مركز التدريب الذي تقوم المملكة المتحدة ببنائه في أوكرانيا هو في الواقع قاعدة عسكرية أجنبية. يصر بوتين بشكل خاص على أن نشر صواريخ أميركية في أوكرانيا يمكنها الوصول إلى موسكو في غضون خمس إلى سبع دقائق لا يمكن ولن يتم التسامح معه.

بالنسبة إلى روسيا، كانت التهديدات العسكرية المتصاعدة واضحة. قد يؤكد بوتين في مقالاته وخطبه على وحدة الشعبين الروسي والأوكراني، لكن أكثر ما يهتم به هو منع توسع “الناتو” في أوكرانيا. لنتأمل ما قاله في آذار (مارس) 2014 بعد إرسال قواته إلى شبه جزيرة القرم ردًا على الإطاحة بالرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش. قال عن القاعدة البحرية الروسية الشهيرة في شبه جزيرة القرم: “لا يمكنني ببساطة أن أتخيّل أننا سنسافر إلى سيفاستوبول لزيارة بحارة الناتو. بالطبع، معظمهم شباب رائعون، ولكن سيكون من الأفضل أن يأتوا لزيارتنا، ليكونوا ضيوفنا، وليس العكس”.

تُشير تصرفات بوتين إلى أن هدفه الحقيقي ليس غزو أوكرانيا وابتلاعها ولكن تغيير الإعداد بعد الحرب الباردة في شرق أوروبا. ترك هذا الإعداد روسيا كجهة حاكمة للقواعد من دون أن يكون لها رأي كبير في الأمن الأوروبي، الذي كان يتمحور حول الناتو. إذا تمكّن من إبقاء “الناتو” خارج أوكرانيا وجورجيا ومولدوفا، وصواريخ الولايات المتحدة متوسطة المدى خارج أوروبا، فإنه يعتقد أنه يستطيع إصلاح جُزءٍ من الضرر الذي لحق بأمن روسيا بعد انتهاء الحرب الباردة. ليس من قبيل المصادفة أن يكون ذلك بمثابة سجلٍّ مُفيد للترشّح في العام 2024، عندما يكون بوتين على وشك إعادة انتخابه.

  • السفير يوسف صدقة هو ديبلوماسي لبناني متقاعد. كان سفيرًا للبنان لدى أوكرانيا بين 2006 و2013.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى