القوّة الخاسِرة

مايكل يونغ*

نشرت صحيفة “الأخبار” اللبنانية يوم الأول من آب/أغسطس عنوانًا مُلفِتًا: “فتنة الصدر-المالكي”. وبالنسبة إلى صحيفة تُعتَبَر مُقرّبة من “حزب الله”، كشفت هذه الكلمات عن أكثر من مجرّد قلق بسيط من أن الفريقَين الشيعيَين العراقيَين، الأول يقوده مقتدى الصدر، والثاني يضمّ شخصيات شيعية بارزة موالية لإيران، كرئيس الوزراء السابق نوري المالكي، قد يدخلان قريبًا في مواجهة مسلحة ضد بعضهما البعض.

وفي المقال المرافق له بقلم حسين ابراهيم، أشار الكاتب إلى أن أيَّ صراعٍ بين هاتَين المجموعتَين الشيعيتَين قد يفرز تطورات عدّة في العراق، من بينها “ترسيخ الحالة الانفصالية” في إقليم كردستان، ما قد يؤدّي إلى “التطبيع مع إسرائيل”، ناهيك عن تدخل تركي وخليجي أكبر في البلاد عبر “وكلاء الداخل”. وعلى الرغم من أن إبراهيم لم يقل ذلك صراحةً، فإن قصده كان واضحًا، وهو أن الفتنة الشيعية-الشيعية قد تؤدي إلى إضعاف المصالح الإيرانية في العراق، لصالح قوى إقليمية تتعارض مصالحها مع مصالح الجمهورية الإسلامية.

لكن المواجهة بين الصدر والمالكي نتجت جُزئيًا عن أهداف إيران في العراق. ويُعزى سبب الجمود السياسي في البلاد، الذي بدأ بعد الانتخابات التشريعية في تشرين الأول/ أكتوبر الفائت، إلى تخوّف المجموعات الموالية لإيران من استبعادها من تشكيل الحكومة العراقية المستقبلية. لا يمكن اختزال هذا الوضع بإيران فحسب ربما، نظرًا إلى دور التنافسات الشخصية وواقع أن الصدر، وهو الخصم الأبرز للمجموعات الموالية لإيران، تجمعه منذ فترة طويلة علاقة مُعقّدة مع طهران. لكن الحقيقة هي أن المصالح الإيرانية لن تتحقق إذا كان حلفاء طهران العراقيون الأكثر ولاءً خارج حكومة تعتمد على دعم الأكراد والسنّة، الذين تختلف مصالحهم الإقليمية عن الأهداف الإيرانية، لا بل تتعارض معها على الأرجح.

يُعتَبَرُ لبنان مركزًا لاستراتيجية إيران الإقليمية، إذ أدرك الإيرانيون من هناك أوّلًا المكاسب التي يمكن تحقيقها في المجتمعات العربية المُنقَسمة على أُسس طائفية. فكما عمدت طهران منذ الثمانينات الفائتة إلى الضرب على وتر الانقسامات الطائفية في لبنان لتحويل ميزان القوى لصالح الطائفة الشيعية، اتبعت هذا النهج بأشكالٍ مختلفة في مجتمعاتٍ عربية مُختَلَطة أخرى على غرار العراق واليمن وسوريا. أما في الأراضي الفلسطينية غير المُنقسمة على أُسسٍ طائفية أو قَبَلية، فقد اسغلّت طهران الانقسامات بين الفصائل الفلسطينية، ما وفّر لها فُرَصًا مُفيدة لتوسيع نفوذها.

لكن هذه القدرة الإيرانية أدّت إلى مُفارقة. ففي الدول العربية التي حقّقت فيها إيران مكاسب، فعلت ذلك من خلال استغلال الخلافات الداخلية والعنف. يعني الارتباط بطهران عادةً تكبّد الخسائر والدمار. ففي المجتمعات التي يطغى فيها النفوذ الإيراني، أمعن حلفاء طهران في انتهاجِ سياساتٍ أدّت إلى إفقار مجتمعاتهم وتدميرها. وإذا كان الاصطفاف مع إيران يؤدي إلى هذا القدر من المُعاناة لصالح نموذج الإمبريالية الجديدة في طهران، فكيف يمكن أن ينعم المشروع الإقليمي الإيراني بالاستقرار؟ بالطبع، يمكن لأجهزة الأمن والاستخبارات الإيرانية وحلفائها المحليين في الدول العربية اعتماد أساليب الترهيب للحفاظ على السلطة، ولكن سيؤدي ذلك حكمًا، في مرحلة ما، إلى استياءٍ أكبر يهدّد بحدوث ردة فعل غير مُتَوَقَّعة في نهاية المطاف.

وهذه هي الرسالة التي استُخلِصَت من الوجود السوري في لبنان، حيث بدت الهيمنة السورية مُحكَمة على مدى 29 عامًا، ثم انهارت فجأة في شباط/فبراير2005.  ومنذ انسحاب الجيش السوري من لبنان في نيسان/إبريل من ذلك العام، تراجع نفوذ الحلفاء المحليين لسوريا بشكل مطّرد، وسرّعت الانتفاضة السورية هذا المنحى. ولا يبدو أن أحدًا يحنّ إلى سنوات الوجود السوري لأن غالبية اللبنانيين تعلم أن دمشق ساهمت في إرساء مرحلة طويلة من الفساد المستشري، والممارسات الوحشية، وفي تدمير الإرث الدستوري اللبناني، وإخضاع البلاد للأولويات السورية. وعند التفكير في هذه المسألة، يبدو أن هذه الممارسات شبيهة بما تفعله إيران في لبنان اليوم.

إيران ليست ماهرة في استخدام “القوة الناعمة”، التي تُعرَّف عمومًا بأنها القدرة على التأثير في الآخرين من دون اللجوء إلى القسر والإكراه. مع ذلك، يعتبر كُثرٌ أن هذه القوة قد تكون فعّالة للغاية في تعزيز جاذبية الدول المهيمنة، فيرى المؤرخ نيال فيرغُسون أن الليبرالية السياسية والاقتصادية كانت سمة إيجابية في الإمبراطورية البريطانية، وسمحت لها بالبقاء لفترة أطول مما كان مكتوبًا لها على الأرجح. وقد جادل الكاتب الأميركي تشارلز بول فروند بأن الثقافة الشعبية الأميركية أسهمت بشكل كبير في تقويض الاتحاد السوفياتي. كذلك، ما زالت المؤسسات التعليمية الفرنسية تؤدّي دورًا أساسيًا في مستعمراتها السابقة والدول التي كانت خاضعة للانتداب الفرنسي، إذ تُسهِمُ في الحفاظ على التأثير الفرنسي هناك بعد فترة طويلة من انتهاء السيطرة الفرنسية المباشرة.

لذا، يبدو مُفاجئًا أن إيران، تلك الدولة ذات التاريخ الثقافي الغني، اختارت أن تكون رسالتها إلى العالم عبارة عن إيديولوجيا صارمة من التشدّد المسلّح الدائم والثورة الإسلامية، التي انزلقت في الكثير من الأحيان إلى طائفية شيعية، كما حدث خلال الصراع السوري. وفي لبنان مثلًا، عبّر الحليف الأقوى لإيران السيد حسن نصر الله مرارًا وتكرارًا عن رؤيته بأن يصبح لبنان فعليًا دولة حامية يؤدي فيها “حزب الله” دورًا طليعيًا في حماية البلاد من تهديدات إسرائيل والولايات المتحدة وسائر أعداء ما يُعرف بـ”محور المقاومة”. ومع أن غالبية اللبنانيين تتشارك مع “حزب الله” العداء لإسرائيل، فإنها لا تريد بالضرورة الوقوف على الخطوط الأمامية في هذه المعركة، ولا ترغب كذلك في قطع علاقات لبنان مع الغرب.

واقع الحال أن الرسالة الإيرانية لا تُوفّرُ عواملَ جذبٍ كثيرة. فالخوضُ في حربٍ مدمّرة مع إسرائيل نيابةً عن إيران ليس خيارًا تتحمّس له الجماهير العربية، سواء في لبنان أو غزة أو سوريا. والأمر الأكثر مدعاةً للقلق في لبنان هو أن القبضة الخانقة التي يفرضها “حزب الله” على الدولة قد دفعت عددًا ليس بقليلٍ من خصوم الحزب إلى التفكير بخيار التقسيم، استنادًا إلى فرضية أنك إن لم تكن قادرًا على إلحاق الهزيمة ب”حزب الله”، فيمكنك على الأقل الانفصال عنه. ثمة أيضًا ردود فعل سلبية مماثلة تجاه إيران في العراق، حيث استهدفت الميليشيات الموالية لإيران الرجال الشيعة الذين كانوا يحتجّون ضد سياسات حكومتهم في أكثر من مناسبة. لا تُظهر هذه الأمثلة أي جاذبية تُذكَر للإيديولوجيا الإيرانية.

لكن في هذه الحالة، ما هو الهدف النهائي لإيران في الشرق الأوسط؟ إذا كانت طهران تسعى إلى إنشاء منطقة نفوذ تُخوّلها التأكيد على أهميتها الإقليمية، فهل هذا ممكن في الدول العربية حيث ينظر الكثير من الناس، وأحيانًا غالبية السكان، إلى إيران باعتبارها مصدرًا أساسيًا لمشاكلهم؟

ربما يمرّ الإيرانيون راهنًا في مرحلةٍ يسعون خلالها إلى التوسّع، وقرّروا الاستفادة مؤقتًا من فُرَصٍ تُلحق ضررًا بالمجتمعات التي ينشطون فيها. وقد يجادل المرء بأنهم حين ينجحون في توطيد سلطتهم، سيُغيّرون نهجهم ويحاولون كسب رضا فئاتٍ أوسع من المواطنين العرب. هذه فكرة لطيفة، لكن النظام الديني الذي لا يزال يعيش على ذكرى ثورة وقعت قبل نصف قرن تقريبًا ليس المرشّح الأفضل لتوجيه مسار التطلّع نحو المستقبل، ولا سيما أنه لم ينجح في تحقيق ذلك في الداخل الإيراني. في غضون ذلك، يبدو أن معظم شباب المنطقة مهتمّون فقط بتحسين ظروفهم المعيشية في ظل التدهور الاجتماعي والاقتصادي الذي يعانيه العالم العربي.

إذًا، ما لم تتمكّن إيران من تطوير قوتها الناعمة، وتتبنّى رؤية تُعالج المخاوف الحقيقية التي تؤرق الجيل الجديد من العرب، فستظلّ هيمنتها على بعض المجتمعات العربية واهنة وغير مستقرة. لكن ربما يدرك الإيرانيون ذلك بالفعل، نظرًا إلى أن التكيّف مع رغبات المنطقة من خلال نموذج أكثر انفتاحًا وجاذبية وأقل قتالية ويروق للأجيال الشابة قد يهدّد النظام الإيراني في نهاية المطاف. غالب الظن أن هذا النظام، من خلال محاولة الحفاظ على بقائه، يمهّد فعليًا لفشل مشروعه في الشرق الأوسط.

  • مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت، وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على:  @BeirutCalling

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى