مُبدِعات موسيقيات مَنسيات (4): لويز فارِنْك: قَهَرَها المجتمع الذُكوري

من مجموعتها الكاملة

هنري زغيب*

بين والدٍ نحات (جاك دومون، سليل أُسرة نحاتين منذ عهد الملك لويس الرابع عشر) وشقيقٍ نحات (أُوغست) نشأَتْ لويز دومون Dumont في پاريس، حيث وُلدت في 31 أَيار/مايو سنة 1804، وكبرَت إِلى حياةٍ مهنية ناجحة بها اشتهرت تأْليفًا موسيقيًّا وعزفًا كلاسيكيًّا ومُدَرِّسة پيانو.

من النجاح إِلى الزواج الناجح…

منذ صغرها بدأَتْ تَدرس العزف على الپيانو مع اختصاصيين مهَرةٍ عزفًا وتأْليفًا، أَبرزهم شُهرةً أَنطونان ريتْشا (من طلابه ليْسْت وبرليوز) حتى تمكَّنت منه وانتقلَت في سنتها الخامسة عشْرةَ إِلى دراسة التأْليف الموسيقي مع أَنه كان عصرئذٍ محصورًا بالذكُور فقط. لكنَّ والدها تخطى الحظْر وشجَّعها لأَنه، وهو الفنان، يعرف أَهمية دراسة الفن مع متمرِّسين مكرَّسين.

سنة 1821 تزوَّجَت من عازف الفلوت الـمرسيليّ أَريستيد فارِنْك Farrenc الذي يزيدها بعشر سنوات، فأَوقفَت دراستها وانطلقَت تدور معه في جولات موسيقية بمعزوفات ثنائية للفلوت والپيانو لم تدُم طويلًا حتى قرر الزوجان وقْف الجولات وتأْسيس “دار فارِنْك للنشر” سرعان ما اشتُهرت كأَفضل مؤَسسة في فرنسا لطباعة المؤَلَّفات الموسيقية. ولزوجها فضل كبير على شُهرتها بنشْر تآليفها في مؤَسسته، وإِلَّا لكانت مؤَلفاتها الموسيقية غرقَت قبْلذاك في النسيان. وتأْكيدًا على ذلك، نشر لها سنة 1838 كتابها “30 بحثًا في النغمات العليا والنغمات الخفيضة”. وسنة 1845 اعتمده الكونسرڤاتوار مرجعًا أَول لطلَّاب الپيانو.

من مؤَلَّفاتها السمفونية

التدريس والتأْليف

سنة 1826 وَلَدت لويز ابنتَها ڤيكتورين (ستكون ابنتها الوحيدة وتكبَر عازفة پيانو ممتازة). وعاودَت لويز إِقامة الكونشرتُوَات فبلغَت سنة 1830 شهرة واسعة جعلتْها تتعيَّن سنة 1842 مُدَرِّسة الپيانو المتفرغة في كونسرڤاتوار پاريس حيث بقيَت 30 سنة المرأَة الوحيدة تدريسًا الفتياتِ فقط (لم يفتح الكونسرڤاتوار صفوف التأْليف الموسيقى إِلَّا لاحقًا سنة 1870). ومن مهارتها في التدريس تَخَرُّجُ طالبات لها نالت منهنَّ كثيراتٌ جوائزَ أُولى في العزف واحتَرَفْنَه بنجاح. مع ذلك بقيَت لويز نحو عشر سنوات تتقاضى راتبًا أَدنى من رواتب المدرِّسين، حتى بَهَرَ الوسطَ الموسيقي سنة 1849 نجاحُ رائعتها الشهيرة “التساعية” (مقطوعة لتسع آلات) بعزْف الهنغاري الشهير جوزف جواشان (1831-1907) منفردًا على الكمان (وكان يومها في الثامنة عشرة) فطالبَت وأَصرَّت فنالت راتبًا معادِلًا رواتبَ زملائها.

وإِلى نجاحها عزفًا وتدريسًا (بقيَت طوال القرن التاسع عشر المرأَةَ الـمُدَرِّسة الوحيدة في كونسرڤاتوار باريس، واشتهرت أَفضل مُدَرِّسة پيانو في أُوروپا)، أَصدرت في “منشورات فارِنْك” كتابها الممتاز “كنوز عازفي الپيانو” عن روَّاد هذا العزف القدامى، فنالت عليه مرتين “جائزة شارتييه” من أَكاديميا الفنون الجميلة (1861 و1869).

البيانو اختصاصُها عزفًا وتأْليفًا

هي والبيانو

كانت لويز، طيلة العشرينات والثلاثينات من القرن التاسع عشر كتبَت فقط للپيانو، فاشتهرت وقرَّظها النقَّاد فترتئذٍ، في طليعتهم  روبرت شومان (1810-1856) وهكتور برليوز (1803-1869). ومع مطلع الأَربعينات أَخذَت في تأْليف مقطوعات أَطوَل لموسيقى الحجرة والأُوركسترا والسوناتات، فاشتُهرت بها أَكثر من تآليفها الأُخرى لأَنها جمعَت فيها كتابةً لآلات النفخ والوتريات مع الپيانو. كما أَلَّفَت افتتاحيَّتَين وثلاث سمفونيات، حضرَت عزف الثالثة بينها سنة 1849 مع أُوركسترا كونسرڤاتوار پاريس. لم يُؤْثَر عنها تأْليفُها للأُوپرا، ولا عن مؤَلِّفين فرنسيين، مع أَنها كانت الفنَّ الأَكثر شعبيةً في فرنسا عصرئذٍ. يرجِّح الباحثون أَنْ لم يتقدَّم لها أَيُّ نص تَضع له موسيقى الأُوپرا، ولا يزال السبب غيرَ واضح، مع ترجيح أَنْ ربما لكونها امرأَة ولم يكن مأْلوفًا عصرئذٍ أَن تكتب امرأَةٌ موسيقى للأُوپرا، لذا لم يهتمّ مسؤُولو دارا الأُوپرا في پاريس (مسرح الأُوپرا ومسرح الأُوپرا كوميك) أَن يرسلوا نُصوصًا إِليها.

في بعض المراجع أَنَّ مجموع أَعمالها بلغ 49 مقطوعة، بينها خماسيَّتان للپيانو، أَربع ثلاثيات للپيانو، سوناتاتان للكمان، سوناتا للتشيلُّو، سداسية للپيانو وآلات النفخ، وتساعية للآلات النفخية والوترية، جاء معظمُها في مناخ شوبرت ومندلسون. وفي بعض المراجع أَنها عرفَت ليسْتْ إِبان إقامته في پاريس (1827-1836) وقد تكون حضرَت عزْف بعض أَعماله. وكتبَت كونشرتو كاملًا للپيانو لم تكمِلْه، اكتشفتْه مؤَرخة الموسيقى بياتريس فْريدْلِند في أَرشيڤ المكتبة الوطنية في پاريس سنة 1978.

في عز عطائها بريشة الإِيطالي لويجي روبيو

الصدمة القاصمة

إِضافةً إِلى الصعوبات في اختراق الوسط الموسيقي الذُكُوري، صَدَمَتْها كارثة عائلية قاصمة: ابنتُها ڤيكتورين، طالبتُها في الكونسرڤاتوار والحائزةُ الجائزةَ الأُولى في العزف على الپيانو سنة 1844، والواعدةُ بمستقبل ساطع تأْليفًا للپيانو، أَصابها مرض عصبي وهي في العشرين، ظلَّ ينخُر في جسدها حتى قضى عليها سنة 1858 وهي في الثانية والثلاثين، وقضى معها على رغبة والدتها في التأْليف والعزْف فتوقَّفت عنهما مكتفيةً بالتدريس حتى نهاية حياتها سنة 1875، وكان زوجُها توفي قبلها بعشر سنوات.

بعد وفاة لويز (پاريس 1875) بقيَت أَصداء شهرتها تتردَّد كعازفة ويرد اسمُها في كتُب عن كبار الموسيقيين، خصوصًا نجاح تساعيتها وخماسيَّتَيْها للپيانو وثلاثياتها. إِنما غرقت أَعمالها في النسيان حتى كان لها في هذا القرن مَن قام لها وأَطلعها إِلى النور مع موجة الكشف عن “المؤَلِّفات الموسيقيات المنسيات”. وسنة 2013 خصَّصَت لها إِذاعة “بي بي سي” سلسلةً لأَعمالها من 7 حلقات ضمن برنامجها الأُسبوعي الشهير “أَعلام العزف في العالم”.

النوع لا الجنس

وكي لا يكون سببُ غيابها في النسيان منذ القرن التاسع عشر مقتصرًا على كونها امرأَة، يجب الإِقرار بأَن نوع مؤَلَّفاتها لم يَعُد رائجًا بعدما توقفَت عن التأْليف منذ مطلع النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ولا فرق هنا، في نوع الموسيقى، بين مؤَلِّف ومؤَلِّفة.

ومع حوائل نجاحها كامرأَة مؤَلِّفة وسْط مجتمع ذكُوري، لم تيأَس لويز من التأْليف، مؤْمنة برسوخ عملها في الجذور الفنية الأَصيلة.

صحيح أَنها لم تَنَل حقَّها على حياتها ولفَّها النسيان نحو قرنين، لكنَّ أَعمالها عادت تظهر اليوم مُكرِّسة إِياها مؤَلِّفة موسيقية من أَبرز أَعلام القرن التاسع عشر.

المقال التالي: الإِيطالية باربَرَة سْتْروتْزي نجمة القرن السابع عشر (1619-1677)

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر:  @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى