كيف ستتحوَّل سياسة أميركا في الشرق الأوسط
كابي طبراني*
لا شكّ أنّ مُستقبلَ انخراطِ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط الكبير هو راهناً على المحك. لقد أدّى عقدان من الحرب “الأبدية” في أفغانستان، والمشاركة العسكرية المُستمرّة في العراق وسوريا وأماكن أخرى في المنطقة، إلى إثارة الجدل حول ما يُشكّل مصلحة أميركية في الشرق الأوسط. وتبرز الصين، وبدرجة أقل روسيا، في النقاش باعتبارهما أهم التحدّيات الاستراتيجية والجيوسياسية لأميركا.
أثارت الأسئلة حول المصالح الأميركية أيضاً نقاشاً حول ما إذا كان بإمكان الولايات المتحدة تحقيق أهدافها على أفضل وجه من خلال التركيز المستمر على الخيارات الأمنية والعسكرية، أو ما إذا كان الإعتمادُ بشكلٍ أكبر على الأدوات السياسية والديبلوماسية والاقتصادية وأدوات المجتمع المدني قد يكون نهجاً أكثر إنتاجية.
لُوِّن النقاش ببندول/ رقّاص ساعة تأرجَحَ من طَرَفٍ إلى … آخر. لقد تنصّل الرئيس جو بايدن من فكرة بناء الدولة التي شكّلت أساس تدخّل الولايات المتحدة بعد 11 أيلول (سبتمبر) 2001 في أفغانستان.
ليس هناك أدنى شك في أن نهج بناء الدولة من أعلى إلى أسفل في أفغانستان لم يكن السبيل للمضي قُدُماً وتقدّم الأمور. لقد استند إلى صنع السياسة من خلال تقارير مُضَلِّلة ومُضَلَّلة وضعتها السلطات العسكرية والسياسية الأميركية، ومكّنت من خلق بيئة فاسدة لدى الأفغان والأميركيين على حدٍّ سواء.
قد يكون الدرس المُستفاد من أفغانستان هو أن بناء الدولة يجب أن يكون عملية يمتلكها ويقوم بها أهل البلاد أنفسهم بينما يدعمها لاعبون خارجيون من بعيد.
من المُحتَمَل أن يؤدي تبنّي هذا الموقف إلى مساعدة إدارة جو بايدن على تضييق الفجوة بين خطابها في مجال حقوق الإنسان وتعريفها المُتشدّد للقيم بالنسبة إلى مصالح الولايات المتحدة وسياستها الخارجية.
نظرةٌ خاطفة على العناوين الرئيسة الأخيرة تحكي قصة فشل الحَوكَمة والسياسات، والديموقراطيات المُجَوَّفة التي كانت هشّة، وإضفاء الشرعية على الوحشية، وتمزيق أنسجة المجتمع، ومجتمع دولي يتصارع مع كيفية التقاط الأجزاء المُتناثرة.
تتلخّص القصة في جوهرها بكيفية تقديم المساعدة الإنسانية لأفغانستان من دون الاعتراف بحركة طالبان أو تمكينها، أو بالجهود المبذولة لوقف الانهيار الاقتصادي والاجتماعي في لبنان والانزلاق في فوضى مُتجَدّدة وحرب أهلية بدون تقديم حبل النجاة لنخبةٍ حاكمة فاسدة فقدت المصداقية.
قد تكون محاولات معالجة المشاكل العاجلة في لبنان وأفغانستان من خلال العمل مع المنظمات غير الحكومية مُقارَبةً قابلة للتطبيق من “أسفل إلى أعلى” بدل أسلوب “من أعلى إلى أسفل” الذي يفتقر إلى المصداقية.
إذا نجحت هذه المقاربة، يمكن أن توفّرَ طريقةً لتقوية وتعزيز صوت الاحتجاجات الشعبية الأخيرة في لبنان والعراق العابرة للطائفية التي تكمن وراء هياكلهما السياسية الفاشلة والمُعيبة. كما تَمنَح المُحتجّين أيضاً ملكية الجهود لبناء مجتمعات أكثر انفتاحاً وتعدّدية وتماسكاً، وهو مطلبٌ شَكّلَ الاحتجاجات. أخيراً، يمكن أيضاً أن تسمح للديموقراطية استعادة الأرض التي خسرتها من خلال الفشل في تحقيق تقدّمٍ ملموس.
سلَّط القتال الطائفي في 14 تشرين الأول (أكتوبر) في الطيونة وعين الرمانة، على طول الخط الأخضر الذي فصل المنطقتين المسيحية والمسلمة في بيروت أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، الضوء على خطر إبعاد هذه الأصوات. ومع ذلك، كان لها صدى عالٍ وواضح في نتائج الانتخابات البرلمانية العراقية الأخيرة، حتى لو امتنعت غالبية الناخبين المؤهّلين عن الذهاب إلى صناديق الاقتراع.
علّق الباحث العراقي في مكافحة الإرهاب والأمن في الشرق الأوسط طلحة عبد الرزاق: “لم نحصل أبداً على الديموقراطية التي وُعِدنا بها، وبدلاً من ذلك تُرِكنا مع وحشٍ شديد العنف وفاسد للغاية يتنكّر بزيّ الديموقراطية حيث أصاب جيلاً كاملاً بصدمات وخيبة أمل”. وعبد الرزاق الذي صوّت في حياته مرة واحدة فقط، وذلك في أول انتخابات أجريت في العام 2005 بعد الغزو الأميركي في العام 2003 يقول: “لم أصوّت في انتخاباتٍ عراقية أخرى منذ ذلك الحين”.
خيبةُ أمل عبد الرزاق هي جزءٌ لا يتجزّأ من القضايا الأكبر المُتعلّقة ببناء الدولة، وتعزيز الديموقراطية، وتوفير المساعدات الإنسانية التي ستُشكّل حتماً دورَ الولايات المتحدة المستقبلي في الشرق الأوسط في عالمٍ من المرجّح أن يكون ثنائي القطب أو مُتعدّد الأقطاب.
جادل مارتن إنديك، المسؤول السابق في مجلس الأمن القومي الأميركي ووزارة الخارجية، في مقالٍ حديثٍ مُقتَبَس من كتاب سيصدره قريباً عن ديبلوماسية هنري كيسنجر في الشرق الأوسط (تنشره “أسواق العرب” لاحقاً هذا الأسبوع)، بأن سياسة الولايات المتحدة يجب أن تهدفَ إلى “تشكيلِ نظامٍ إقليميٍّ تدعمه الولايات المتحدة بحيث لا تكون أميركا فيه اللاعب المُهَيمن، حتى لو بقيت الأكثر نفوذاً”.
ورأى إنديك أن دعم إسرائيل وحلفاء أميركا من العرب السنّة سيكون في صميم تلك السياسة. في حين أنه في عالم السياسة الواقعية، قد تكون لدى الولايات المتحدة بدائل قليلة، فإن السؤال هو كيف سيُمكِّن التوافق مع أنظمة استبدادية وديموقراطيات غير ليبرالية الولايات المتحدة من دعم عملية انتقال اجتماعي وسياسي تصاعدية، من أسفل إلى أعلى، تتجاوز التشدّق بالكلام.
هذا السؤال مُهِمٌّ بشكلٍ خاص نظراً إلى أن الشرق الأوسط يدخل العقد الثاني من التحدّي والمعارضة اللذين يتطلبان إجابات عن المظالم التي لم يتم التعبير عنها في زمن كيسنجر، على الأقل ليس بقوّة.
ركّز كيسنجر على موازين القوى الإقليمية وإضفاء الشرعية على نظامٍ تُهيمن عليه الولايات المتحدة. “لقد كان النظام وليس السلام هو ما سعى إليه كيسنجر، لأنه كان يعتقد أن السلام ليس هدفاً يُمكن تحقيقه ولا حتى هدفاً مرغوباً في الشرق الأوسط”، يقول إنديك، في إشارة إلى الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني.
وأشار إنديك إلى أن قواعد النظام الذي تُهيمِنُ عليه الولايات المتحدة في ذهن كيسنجر “لن يتم احترامها إلّا إذا وفّرت إحساساً كافياً بالعدالة لعددٍ كافٍ من الدول. لم يتطلب الأمر إيجاد حلٍّ لجميع المظالم … ’مجرّد تغييب المظالم التي قد تُحفّزُ جهداً للإطاحة بالنظام’”.
الانتفاضات الشعبية العربية في العام 2011 التي أطاحت قادة مصر وتونس وليبيا واليمن، حتى لو تراجعت إنجازاتها لاحقاً، والاحتجاجات الجماهيرية لعامي 2019 و2020 التي أجبرت قادة السودان والجزائر والعراق ولبنان على الاستقالة، لكنها فشلت في تغيير الهياكل السياسية والاقتصادية بشكل أساسي، هي دليل على أن هناك اليوم إرادة للإطاحة بالنظام.
في مقاله، يعترف إنديك بحقيقة أن “الناس في جميع أنحاء المنطقة يصرخون مُطالبين بحكومات مسؤولة”، لكنه يجادل بأن “الولايات المتحدة لا تستطيع تلبية هذه المطالب” حتى لو “لا يمكنها تجاهلها أيضاً”.
قد يكون إنديك على حق. ومع ذلك، لا يمكن للولايات المتحدة، مع سياسة الشرق الأوسط عند نقطة تحوّل، أن تتجاهل حقيقة أن الفشل في معالجة المظالم الشعبية ساهم بشكلٍ كبيرٍ في صعود التشدّد الإسلامي العنيف والدول القمعية وغير الليبرالية في منطقة فيها تضخّمٌ كبيرٌ في عدد الشباب الذين لم يعودوا على استعداد للبقاء سلبيين هادئين و/ أو صامتين.
في إشارة إلى 600 محتج عراقي قُتِلوا على أيدي قوات الأمن والميليشيات الموالية لإيران، أشار عبد الرزاق في مقالٍ سابق على موقع “قناة الجزيرة” إلى أن المتظاهرين “يتبنّون الآن وسائل جديدة لإبقاء هوياتهم بعيدة من أعين قوات الأمن والميليشيات الشيعية القوية” مثل تقنية “بلوك تشين” (blockchain) والشبكات الخاصة الافتراضية اللامركزية.
“ما لم يُسقِطوا … الأقمار الاصطناعية التي تُوفّر الإنترنت، فلن يتمكّنوا أبداً من إسكات آمالنا في الديموقراطية والمُساءلة مرة أخرى. هذا هو حلمنا”، يقول عبد الرزاق نقلاً عن سرينيفاس باريد، كبير مسؤولي التكنولوجيا لشبكة افتراضية لامركزية يفضّلها المحتجّون العراقيون.
- كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب”. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه: gabrielgtabarani.com أو عبر تويتر على: @GabyTabarani