المُتَألِّهون

راشد فايد*

يكفي أهالي الضحايا، شهداء ومعتلّين ومُشرّدين ومُحبَطين وخاسري أرزاقهم كل هذا اللغو الدائر في قضيتهم، والذي وضع تفجير مرفإِ بيروت في المرتبة الثانية من الإهتمام، لأن المرتبة الأولى، في مجالها، محجوزة لأصحاب المعالي والسعادة الذين يعزّ عليهم أن يقفوا أمام عدالة القضاء، ولا يتفهّمون كيف يعزّ على الأهالي أن يواجهوا كل يوم السؤال: من قتلَ أبناءنا، وأهلنا، ومن شرّدنا ودمّر أحلامنا، وأفرغ مدينتنا من جذوة الحياة فيها؟

لكن صُوَر أصحاب المعالي والسعادة على شاشات التلفزة عن ملاحظاتهم “القانونية” تستفزّ المشاهد في أنانيتها المُتعامية عن المبدأ القائل بأن المواطنين سواسية أمام القانون، وخلاف ذلك هرطقات سوغها أهل النظام لغايات أملاها الفساد، وإذا كان من استثناءاتٍ فهي مُحَدَّدة بالقانون، وبوضوح، ولا أحد منهم فوق القانون، وأن كل التحايل والتلاعب بالنصوص، مطّاً وزَمّاً، لن يُغيّر الحقيقة الناصعة، وهي أن ما يجري، منذ 4 آب/أغسطس 2020، من مُماحكات وتأويلات هو وصمة عار على جبين الحكم والموالاة والمعارضة: إنفجارٌ قارَبَ ذلك النووي الذي وقع في هيروشيما، خلّف مقتل أكثر من 211 شخصاً وإصابة أكثر من 6,500 آخرين، وتضرّر مباشر لنحو 50 ألف وحدة سكنية، و300 ألف شخص بلا مأوى، وخسائر مادية ما بين 10 إلى 15 مليار دولار أميركي، كل ذلك ولا يزال التحقيق قيد التجاذب السياسي المُمَوَّه بمسحةٍ قانونية، تبحث عن “حقوق” الوزراء وكبار الموظفين، وتغمض العين عن حقوق الشهداء والضحايا، فالمهم “كرامة” الوزير والمدير، ومن عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آتٍ آت، وهذا ما اعتاده اللبنانيون مع مآسيهم المُتدحرجة، وما يناسب حكامهم، فالنسيان يطوي الآلام ويُجدّد حكم الفاسدين، وهو حليفهم الأبقى.

كان مُنتَظَراً من اصحاب المعالي والسعادة أن يكونوا في مستوى الفاجعة، فالإمتثال للقضاء لا يُخيف البريء، ولا يُهينه، ولا يُقلّل من شأنه، بل يرفع من قدره، وإذا كان مُخِلّاً في وظيفته، برتبة وزير أو مدير، أو ساعٍ، فعليه تنكب المسؤولية التي تصدّى لها بإرادته واختياره، ولوّن صفحات وسائل التواصل الإجتماعي بصوره وخبرياته وإنجازاته. ولِمَ لا وهو يعرف أن زعم كوننا دولة قانون يملي علينا ما يفعله المسؤولون في أيّ دولة قانون، وهي كثيرة في العالم، وهو الخضوع للقانون، لا مواجهته مرّة بالارتياب ومرّات بالتسييس. وها هو رئيس فرنسا الأسبق نيكولا ساركوزي يُحكَم بالسجن سنة بعد إدانته بالتمويل غير القانوني في انتخابات 2012 ، ولا ضرورة للتذكير بلائحة زعماء ورؤساء في العالم خضعوا لقوانين بلادهم، من الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون إلى رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلسكوني ورؤساء حكومات اسرائيل وحتى رئيس دولة الإحتلال موشيه كاتساف، وبعده إيهود أولمرت، وكذا حسني مبارك، وأغلبهم أدين بكسبٍ غير مشروع، ونهب المال العام، وهذه أمور يريد جماعتنا ايهامنا بتعفّفهم عنها والطهر من إثمها. فعلامَ يخافون الإمتثال للقضاء؟

ما يجري ليس إشكالاً قانونياً أو دستورياً. هو أقرب إلى تألّه المعنيين، لكنه بالتأكيد مَعبَرٌ لتجديد نظام منافع وصفقات يُمدّد عمره على حساب أعمار اللبنانيين، مَن استشهد منهم ومَن ينتظر، وهو يُتقن لعبة الوقت والتمييع.

  • راشد فايد هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @RachedFayed
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازياً مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى