كَيفَ أحيَت حَربُ غزّة “مِحوَرَ المُقاومة”

كان “محور المقاومة” قَيدَ الإنشاء منذ فترة طويلة، إلّا أنَّ الحربَ في غزّة منحته أكبر فرصة حتى الآن لشَنِّ هجومٍ عسكري واتصالي على الغرب.

السيد حسن نصرالله: الأساس مع قاسم سليماني في إنشاء “محور المقاومة”.

نَرجِس باجوغلي و وَلِي نصر*

في 12 كانون الثاني (يناير)، شنّت المملكة المتحدة والولايات المتحدة ضرباتٍ عسكرية على أهدافٍ للحوثيين في اليمن. كانت هذه الهجمات ردًّا على هجماتِ التنظيم على سُفنٍ تجارية في البحر الأحمر، والتي عطّلت التجارة العالمية. إنَّ تصرّفات الحوثيين جعلتهم لفترةٍ وجيزة أبرزَ أعضاءِ التحالف العسكري الذي أصبح نشطاً على نحوٍ مُتزايد في مختلف أنحاء المنطقة في أعقاب اغتيال صالح العاروري وغيره من قادة “حماس” في بيروت في الثاني من كانون الثاني (يناير). ذلك أنَّ زعيمَ “حزب الله” السيد حسن نصرالله، بعد وفاتهم، توَعَّدَ بالانتقام وأعلن أنَّ القتالَ ضدّ إسرائيل يتطلّب “محور المقاومة”. في الساعات التي تلت تصريحَ وتَعَهُّدَ نصر الله، تم تقطيع كلماته إلى مقاطع فيديو تم إنتاجها ببراعة وانتشرت على نطاقٍ واسع. ثم هاجَمَ المحور. قصفَ “حزب الله” قاعدة ميرون للمراقبة الجوية الإسرائيلية بـ62 صاروخًا؛ أرسلت جماعة المقاومة الإسلامية المُتَمَركِزة في العراق طائراتٍ مُسَيَّرة لمهاجمة القواعد الأميركية في سوريا والعراق واستهدفت مدينة حيفا الإسرائيلية بصاروخ كروز بعيد المدى؛ وضربَ الحوثيون سفنًا تجارية في البحر الأحمر؛ واستولت إيران على ناقلة نفط في خليج عُمان.

ورُغمَ أنَّ الدول الغربية والإقليمية تَزعَمُ أنها لا تريد أن تتحوَّلَ الحربُ في قطاع غزة إلى حريقٍ إقليمي، فإنَّ إيران و”حزب الله” والحوثيين وغيرهم من أعضاء المحور يلعبون لعبةً مُختلفة تمامًا. إنهم يعملون بصَبرٍ ومَنهجية على تعزيزِ تحالفِ قوى عبر ساحة المعركة الإقليمية. لقد بدأ الأمر بإيران و”حزب الله”، لكنه يتطوّرُ بسرعة إلى شيءٍ أكبر. من بين أعضائه الآخرين الحوثيون في اليمن، و”حماس” و”الجهاد الإسلامي” في فلسطين، والميليشيات الشيعية في العراق وسوريا. ويُشَكّلُ تشكيلُ هذا المحور تحدّيًا مُباشِرًا للنظام الإقليمي الذي أنشأه الغرب ودافع عنه في الشرق الأوسط لعقودٍ من الزمن. كما إنه -كما تُظهِرُ الهجمات الإيرانية والحوثية على الشحن في البحر الأحمر- يُمثّل تهديدًا للتجارة العالمية وإمدادات الطاقة.

لقد أظهرَ هجومُ “حماس” على إسرائيل في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) قدرات المحور ونفوذه، الذي يمتدُّ إلى ما هو أبعد من الأراضي الفلسطينية ليشمل لبنان وسوريا والعراق واليمن وإيران. ويرى الغربُ أنَّ طهران هي العقل المُدَبِّر وراء هذه الشبكة، ولا شكَّ أنَّ “محورَ المقاومة” يعكسُ النظرة الاستراتيجية لإيران. والواقع أنَّ الحرس الثوري الإيراني زَوَّدَ أعضاءَ المحور بقدراتٍ عسكرية فتّاكة ودَعمٍ مُنَسَّق. لكنَّ طهران ليست هنا سيّدة تُديرُ دُمى، إذ يعكسُ تماسُكُ المحور ودوره الإقليمي أكثر بكثير من إملاءات إيران.

بدلًا من ذلك، فإنَّ المحور مُرتَبِطٌ ببعضه البعض من خلال الكراهية المُشتَرَكة لـ”الاستعمار” الأميركي والإسرائيلي. ويعتقدُ “حزب الله” أنَّ واشنطن وتل أبيب تتدخّلان في شؤون لبنان، وتعتقد “حماس” والحوثيون والميليشيات الشيعية في العراق أنَّ الأمرَ نفسه ينطبق على أراضيهم. وكما قال نصر الله، فإنَّ المجموعات المُتبايِنة تُوَحِّدُها حقيقةً مفادها، سواء كانوا لبنانيين أو فلسطينيين أو يمنيين، أنهم يواجهون القضايا نفسها والعدو نفسه. وهذا يعني أنَّ ما يحدث في منطقةٍ له صلة مباشرة بالمناطق الأخرى. وبدلًا من أدوات إيران، يرى المحور نفسه كتحالُفٍ مَبنِيٍّ حولَ أهدافٍ استراتيجية مُشتَرَكة بروح “الكُلُّ من أجلِ واحد، وواحدٌ من أجلِ الكُلّ”. ويعتقدُ أعضاء المحور أنهم جميعًا يخوضون الحرب نفسها ضد إسرائيل، وبشكلٍ غير مباشر، ضد الولايات المتحدة. وهذا يعني أنَّ التحذيرات الأميركية أو الهجمات الأميركية لن تُجبِرَ المحور على التنحّي والتراجع. وما لم تصمت المدافع في غزّة، وتُخَفَّفُ الضغوط المفروضة على سكانها، وما لم يتمّ التخطيطُ لمسارٍ جديرٍ بالثقة نحو السيادة الفلسطينية وتقرير المصير، فإنَّ الولايات المتحدة لن تكون قادرة على إخراج نفسها من دوامة التصعيد الخطيرة.

تصميم طهران الكبير

لم ينبض محور المقاومة بالحياة في السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، بل تَكَوّنَ في أعقاب الغزو الأميركي للعراق في العام 2003. قام مؤسّسها، فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، وقائده السابق الجنرال قاسم سليماني، ببناءِ الشبكة على خلفية علاقات إيران الوثيقة مع “حزب الله”، بالاعتماد على تجارب إيران و”حزب الله” في قتال ومواجهة العراق وإسرائيل في الثمانينيات الفائتة. منذ البداية، سعى سليماني إلى إنشاءِ شبكةٍ مَرِنة حيث يكونُ كلُّ جُزءٍ من المحور مُكتَفيًا ذاتيًا. على الرُغم من أنَّ التدريبَ والذخائر قد يأتيان من إيران، إلّا أنه كان من المتوقع من كلِّ وِحدةٍ أن تُتقِنَ وتستخدم التكتيكات والتكنولوجيا والأسلحة.

في أيامه الأولى، كان الهدفُ الأساس للمحور الناشئ هو هزيمة الخطط الأميركية لاحتلال العراق. ولتحقيقِ هذه الغاية، نجحت طهران و”حزب الله” في إنشاء ميليشياتٍ محلّية قاتلت القوات الأميركية. ثم، بعد سيطرة تنظيم “داعش” على أجزاءٍ كبيرة من العراق وسوريا في العام 2014، تم إنشاء ميليشيات مُماثلة لمحاربة هذه القوى الطائفية المُسَلَّحة التي هدّدت نظام الأسد في سوريا والسيطرة الشيعية في العراق. وأصبحت الحرب الأهلية السورية نقطةَ تحوّلٍ بالنسبة إلى المحور، حيث قاتلت إيران و”حزب الله” والميليشيات الشيعية في العراق وسوريا ضد عدوّها المشترك. ومن خلال القيام بذلك، قامت هذه الدول والمجموعات بتعميق قدراتها العسكرية والاستخباراتية وصقل المنطق الاستراتيجي لتحالفها. خلال هذه الفترة، عزّزت إيران علاقاتها مع المتمرّدين الحوثيين في اليمن، وضمّتهم إلى التحالف المُزدهر الآن، وتبنّوا راية محور المقاومة.

على مدى العقد الفائت، نشرت إيران و”حزب الله” صواريخ وطائرات مُسَيَّرة وصواريخ متقدمة في غزة والعراق وسوريا واليمن. كما قاما بتدريب “حماس” والحوثيين على بناء أسلحتهم الخاصة. وقد تجلّى نجاح هذا النهج في تطوير واستخدام الصواريخ الماهر من  جانب “حماس” والحوثيين. كما قاما بتدريب أعضاء المحور أيضًا على الاتصالات الإعلامية، وساعدا على إنشاءِ قنواتٍ مالية، والتعليم على كيفية دعم المقاومة المدنية، خصوصًا في الضفة الغربية. وقد بنى خليفة سليماني، إسماعيل قاآني، على هذا الإرث وزاد من لامركزية المحور، وفَوَّضَ بشكلٍ متزايد عملية صنع القرار التكتيكي والعملياتي إلى الوحدات المحلية وقادتها.

ساعدت الشبكة الناتجة طهران على تعزيز هدفها الدائم المتمثل في إخراج الولايات المتحدة من الشرق الأوسط. منذ ثورة 1979، ركّزت طهران على حماية البلاد من واشنطن، التي يعتقد القادة الإيرانيون أنها عازمة على تدمير الجمهورية الإسلامية. ولتحقيقِ هذه الغاية، سعت إيران إلى الاستهزاء بالمحاولات الأميركية لاحتوائها اقتصاديًا وعسكريًا. وقد سعت إلى طرد الجيش الأميركي من البلدان المتاخمة لإيران والخليج العربي، وإجبار الولايات المتحدة على مغادرة المنطقة. وكان المحور ذا قيمة بالنسبة إلى طهران، لأنه صرف انتباه القوات الأميركية بعيدًا من حدود إيران.

وقد نمت القيمة الاستراتيجية للمحور بالنسبة إلى طهران على مدى السنوات الثماني الماضية بسبب تزايد عداء واشنطن. في العام 2018، انسحب الرئيس الأميركي دونالد ترامب من الاتفاق النووي مع إيران وفرض أقصى العقوبات على البلاد، وفي العام 2020 أمرَ بقتل سليماني. وقد أقنعت هذه الإجراءات طهران بالحاجة إلى محورٍ أكثر قوةً وتماسُكًا من الحلفاء، يمتد من البحر الأبيض المتوسط إلى الخليج العربي، وهو ما يمكن أن يزيد الضغط على واشنطن. وفي هذا السياق، أصبح البرنامج النووي الإيراني مُهمًا ليس فقط كورقة مساومة للتفاوض على إزالة العقوبات، ولكن أيضًا كرادعٍ يمكن أن يحمي المحور من الهجوم الأميركي.

ويتشارك الأعضاء الآخرون في “محور المقاومة” مع أهدافِ طهران في جميع أنحاء المنطقة، والتي تعكس أيضًا مصالحهم المحلية. ف”حزب الله”، على سبيل المثال، تُحرّكه الرغبة في حماية جنوب لبنان مما يعتقد أنه ضمن طموحات إسرائيل التوسّعية، والتي من المفترض أن تمتدَّ أيضًا لتشمل مناطق في سوريا والأردن. تُركّزُ الميليشيات الشيعية في العراق على إخراج القوات الأميركية من البلاد، فضلًا عن الانتصار في ما يعتقدون أنها حربٌ أهلية غير مُنتهية مع أهل السنّة في البلاد. يريدُ الحوثيون السيطرة على كامل اليمن، وهم مستاؤون من الجهود التي تبذلها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة لعرقلة طريقهم.

الكُلُّ من أجلِ واحد

مع ذلك، فإنَّ محورَ المقاومة هو في نهاية المطاف تحالفٌ عسكري، وبالتالي فإنَّ أعضاءه أقوى معًا. وعلى الرُغم من أن “حماس” خططت ونفّذت هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر)، إلّا أنَّ إيران و”حزب الله” كانا مسؤولَين إلى حدٍّ كبير عن تطوير قدرات “حماس”. وكما أظهرت مجموعة من الاجتماعات في بيروت حضرها كبار قادة “حماس”، و”حزب الله”، و”الجهاد الإسلامي الفلسطيني”، والحرس الثوري، والميليشيات الحوثية والعراقية قبل الهجوم، فمن المرجح أنَّ أعضاءَ المحور كانوا على عِلمٍ بخطط “حماس” ودعموها. وبالنسبة إلى “حماس”، كان الهدف الرئيس للهجوم يتلخّص في تعطيل الوضع الراهن الذي كان يعملُ ببطءٍ ولكن بثبات على إطفاء القضية الفلسطينية، وإعادة نضالهم إلى واجهة السياسة العربية.

بالنسبة إلى إيران و”حزب الله” أيضًا، فإنَّ إعادةَ القضية الفلسطينية إلى مركز الاهتمام كانت لها ميزة حيث وضعت إسرائيل في موقفٍ دفاعي، وبالتالي تقليص احتمالات المزيد من تطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية. كما إنهما مفتونان بإمكانية توريط إسرائيل في حربٍ مُتعدّدة الجبهات من شأنها أن تستهلكَ مواردها. وفي كلتا الحالتين، يُحقّقُ الصراعُ هدفًا إيرانيًا طويل الأمد: فقد اعتقدت طهران منذ فترة طويلة أنه إذا لم تكن إسرائيل مُنشَغِلة بشؤونها الخاصة، فإنها ستكون مُنشَغِلة بشؤون إيران.

إلّا أنَّ نتيجةَ هجومِ “حماس”، وحَجمَ وشراسةَ الردِّ الإسرائيلي، والكارثةَ الإنسانية التي أعقبته، ومدى الاهتمام العالمي، كانت غير مُتَوَقَّعة. لم تتوقع “حماس” وحلفاؤها في المحور أن يكون الهجوم في 7 تشرين الأول (أكتوبر) ناجحًا إلى هذا الحد، بل من المرجح أن يكونوا تصوّروا غزوًا سريعًا داخل إسرائيل من شأنه أن ينتهي بسرعة وبخسائر ورهائن محدودة. كان من الممكن أن تهاجم إسرائيل غزة، ولكن ليس بالوحشية المدمّرة التي أطلقتها. وكان نجاحُ هجوم “حماس” وحجم رد الفعل الإسرائيلي بمثابة ذهول للمحور، الذي أعاد نتيجةً لذلك مُعايَرة أهدافه واستراتيجيته. وعلى الرُغمِ من أنَّ إيران و”حزب الله” لا يُريدان حربًا إقليمية أوسع نطاقًا، إلّا أنهما استهدفا القوات الإسرائيلية والأميركية بطائراتٍ مُسَيَّرة وصواريخ. وانضم الحوثيون إلى المعركة من خلال تعطيل الشحن في البحر الأحمر. لقد فعلوا ذلك لإظهار الدعم للفلسطينيين ولكن أيضًا لردع الولايات المتحدة وإسرائيل عن توسيع الحرب إلى لبنان من خلال إظهارِ استعدادِ أعضاء المحور للقتال. ويأملون أن يردعَ هذا القرار إسرائيل عن توسيع الصراع، ويحرم تل أبيب من القدرة على توسيع الحرب على جبهةٍ من اختيارها، من دون مواجهةِ صراعٍ على جميع جبهات المحور.

لقد شارك جميع أعضاء المحور في الحرب في غزة، وبالتالي فإنهم جميعًا مُتَوَرّطون في نظر إسرائيل والولايات المتحدة. وقد أدى هذا إلى تعزيز الروابط داخل المحور. والآن يعتمدُ كلٌّ منهم على الآخر، وعلى مَنعِ تحقيقِ نصرٍ إسرائيلي واضح في غزة. لأنه إذا انتصرت إسرائيل، فمن المرجح أن تُحَوِّل انتباهها إلى أعضاءٍ آخرين في المحور، بدءًا ب”حزب الله” وانتهاءً بإيران.

الحروب الإعلامية

كانت الكاميرات في هجمات “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) لا تقلُّ أهميةً عن الأسلحة الفتّاكة. وباستخدام كاميرات “GoPro” المُثبتة على المسلّحين والطائرات المُسَيَّرة لتسجيل خروقات الجدار الأمني الإسرائيلي، بدأت “حماس” نشرَ مقاطع فيديو جاهزة لوسائل التواصل الاجتماعي في غضون ساعات من الهجوم، وسيطرت على السرد منذ البداية. وتمتّعت “حماس” بالقدر نفسه من الذكاء الإعلامي منذ ذلك الحين. على سبيل المثال، خلال وقف إطلاق النار المؤقت وتبادل الرهائن في تشرين الثاني (نوفمبر) 2023، أطلقت الحركة سراح أسراها الإسرائيليين في وسط مدينة غزة، وكانت الكاميرات جاهزة لالتقاط ابتساماتهم ومصافحاتهم وتقبيلهم من قبل الأسرى. وقد تمَّ تصميمُ هذا لمواجهة روايات السياسيين الإسرائيليين عن الإرهابيين “المتوحّشين” و”الحيوانات البشرية”. إن الرأي العام في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، وا”لجنوب العالمي”، بل وحتى الغرب، ينظرُ على نحوٍ متزايد إلى الصراع باعتباره نتيجةً لاحتلالٍ دام عقودًا من الزمن، وليس ردًّا على الإرهاب الإسلامي. وهذا يؤكّدُ ضمنيًا صحة النظرة العالمية المُناهضة للاستعمار للمحور، ويساعد على جعل المحور أكثر شعبية في جميع أنحاء المنطقة.

ويأملُ المحور أن تزداد شعبيته العالمية أيضًا. ولأول مرة منذ عقود عديدة، أصبحت القضية الفلسطينية بارزةً دوليًا، وهو ما يعتبره قادة المحور نعمة. إنَّ صعودَ القضية الفلسطينية يؤدّي إلى عزل إسرائيل والولايات المتحدة وزيادة الانتقادات العالمية للاستعمار الاستيطاني والاحتلال والفصل العنصري. ويُرَحّبُ زعماء المحور بالمواجهة مع الغرب في وقتٍ حيث تكتسب هذه الأفكار المُناهِضة للغرب اهتمامًا جديدًا. ولتحقيق هذه الغاية، وضع قادة المحور هذه المفاهيم في قلب رسائلهم. لقد اختفت المُصطلحات الدينية الغامضة التي كانت لفترةٍ طويلة عنصرًا أساسيًا في خطاب إيران و”حزب الله”؛ وحلَّت مَحَلَّها بدلًا من ذلك كلماتٌ وعباراتٌ مألوفة من أدبيات حقوق الإنسان والقانون الدولي. وقد حدث مثالٌ مُفيدٌ أخيرًا، عندما نشر الحوثيون مقطع فيديو باللغة الإنكليزية عبر منصّات وسائل التواصل الاجتماعي، مُعلنين عن حصار البحر الأحمر أمام جميع السفن التجارية المرتبطة بإسرائيل أو المُتَّجهة إلى الموانئ الإسرائيلية. وجاء في الفيديو أنَّ هذه العمليات العسكرية “تتقيَّد بأحكام المادة الأولى من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها”. وتنصُّ هذه المادة على أنَّ جميعَ الأطراف في الاتفاقية مُلزَمة بمنع حدوث الإبادة الجماعية ومعاقبة المسؤولين عن ارتكابها. وينتهي الفيديو برسالة: “يتوقف الحصار عندما تتوقّف الإبادة الجماعية”. في 11 شباط (فبراير)، قصفت المملكة المتحدة والولايات المتحدة اليمن، في اليوم نفسه الذي رفعت فيه جنوب أفريقيا قضية الإبادة الجماعية ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية. ومرة أخرى، انتشرت الرسالة عبر منصات وسائل التواصل الاجتماعي مفادها أنَّ جنوب أفريقيا واليمن تتخذان إجراءات لوقف الإبادة الجماعية، في حين كانت لندن وواشنطن تقصفان المنطقة مرة أخرى لدعم القمع. طوال الأشهر الثلاثة الماضية، اكتسب الحوثيون، على وجه الخصوص، قاعدة جماهيرية عالمية بين قطاعات الجيل “زَد”، مع انتشار مقاطع الفيديو الخاصة بهم على “تيك توك” (TikTok).

خلال العشرين عامًا من “الحرب على الإرهاب”، كان أعضاء “محور المقاومة” إما غير معروفين دوليًا أو يُعتَبَرون ببساطة إرهابيين بدافع كراهية الغرب. منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر)، تمكّنَ المحور من تعريف نفسه بشروطه الخاصة، وربط أعماله بنجاح مع الحركات العالمية المُناهِضة للاستعمار. وقد حقق بالفعل نجاحًا لم يكن من الممكن تصوّره من قبل: فقد هتف المتظاهرون في لندن هذا الشهر “اليمن، اليمن، جَعَلَنا فخورين، أدِر وأعِد سفينةً أخرى”.

إذن، يُقاتِلُ المحور الآن إسرائيل والولايات المتحدة ليس فقط في ساحاتِ القتال في الشرق الأوسط ولكن أيضًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي – بما في ذلك على منصّات “إكس”، “تيك توك”، تيليغرام”، إنستيغرام”- من أجل الرأي العام العالمي. والحقيقة أنَّ تصريحات نصر الله والمرشد الأعلى علي خامنئي تشير إلى أنَّ قادةَ المحور ينظرون إلى الرأي العام الدولي باعتباره الجائزة الاستراتيجية الأهم في المدى الطويل. إنهم يعلمون أنهم لا يستطيعون هزيمة الولايات المتحدة عسكريًا، ولذلك يأملون في خلقِ ضَغطٍ شعبي كافٍ لإجبار واشنطن على الانسحاب من الشرق الأوسط واحترام سيادة الفلسطينيين. ولهذا السبب احتفل نصر الله بحقيقة أنَّ “إسرائيل يُنظَرُ إليها الآن على أنها دولة إرهابية تقتل الأطفال، وذلك بفضل وسائل التواصل الاجتماعي”. وتابع نصر الله أنه بسبب وسائل التواصل الاجتماعي، هناك تصورٌ عالمي لإسرائيل على أنها “قاتلة للأطفال والنساء، وتهجير الناس، ومسؤولة عن أكبر إبادة جماعية في القرن الحالي”. كما احتفل نصر الله بقدرة وسائل التواصل الاجتماعي على نشر الرأي القائل بأنَّ الولايات المتحدة تتحمّل المسؤولية. وقال: “الحربُ على غزة هي حربٌ أميركية، والقنابل أميركية، والقرار أميركي. والعالم يعرف هذا اليوم”.

بالنسبة إلى المحور، تأتي هذه الحملة الإعلامية في الوقت المناسب. لقد أدركت إيران “وحزب الله” منذ فترة طويلة أهمية القوة الناعمة، لكنهما لم ينجحا تاريخيًا في التأثير فيها. لكنهما أدركا هذا القصور، وأمضيا العقد الماضي في بناءِ بنية تحتية إعلامية قوية وذكية -تعملُ الآن بلغاتٍ متعددة- لهذا النوع من اللحظات بالضبط. واليوم، ينشر محور المقاومة مقاطع فيديو يومية للعمليات في ساحة المعركة، مُكتَمِلةً بتأثيراتِ الحركة البطيئة لتسليط الضوء على الضربات المباشرة للجنود الإسرائيليين والمنشآت العسكرية. وهو ينشرُ مقاطع فيديو على “تيك توك” للحوثيين وهم يرقصون على متن السفن التي تمَّ الاستيلاء عليها في البحر الأحمر، ويُنتجُ “ميمات” تهدف إلى توليد قاعدة جماهيرية عالمية لشخصياتِ المحور الرئيسة، بما في ذلك المُتحدّث باسم “حماس” أبو عبيدة. ويتمُّ إنتاجَ المحتوى أيضًا للاحتفال بنصر الله، ومقارنة زعيم “حزب الله” برؤساء الدول العربية المُتَّهَمين بعدم فعل الكثير من أجل الفلسطينيين. يُكمّلُ هذا الناتج المحتوى الذي يتم إنتاجه في الخارج لدعم فلسطين، ما يوسّع نطاق المحور بطرقٍ غير مسبوقة.

وتُمَثّلُ الحملات العسكرية وحملات القوة الناعمة التي ولّدها المحور تحدّيات إقليمية غير مسبوقة للغرب، ولواشنطن على وجه الخصوص. إذا لم تنتهِ الحربُ قريبًا، ولم يتمّ تأسيس طريقٍ واضحٍ للتوصّل إلى تسويةٍ عادلة للفلسطينيين، فإنَّ الولايات المتحدة سوف تواجه منطقةً سوف تتشكّل سياساتها على نحوٍ متزايد بفعل الغضب الذي يجتاح قطاع غزة. إنَّ توسّعَ الصراع إلى ما هو أبعد من غزة، أو من قِبَلِ إسرائيل في لبنان أو من قِبَلِ الولايات المتحدة وحلفائها في اليمن لن يؤدّي إلّا إلى تغذية هذا الغضب، وزيادة تأجيج الرأي العام، وترسيخ نفوذ المحور. ولا يمكن لواشنطن أن تَعكُسَ هذا الاتجاه إلّا من خلال التفاوض على وقف إطلاق النار في غزة، ومن ثمَّ تشكيل عملية سلام ذات مصداقية تؤدّي إلى تسوية نهائية.

كان “محور المقاومة” قَيدَ الإنشاء منذ فترة طويلة، لكنَّ الحربَ في غزة منحته أكبر فرصة حتى الآن لشَنِّ هجومٍ عسكري واتصالي على الغرب. لقد فرض نفسه بالفعل في المنطقة من خلال أسلحته وجنوده، وعلى المستوى العالمي من خلال رسالته ومهمته. لقد غيرت الحرب بين إسرائيل و”حماس” منطقة الشرق الأوسط: فقد نشأ غضبٌ شعبي هائل، وقد يؤدّي العداء تجاه الغرب إلى إشعال شرارة التطرّف الجديد وعدم الاستقرار السياسي. وبالنسبة إلى حكام المنطقة، حتى أولئك الذين تعتبرهم واشنطن حلفاء، فقد غيَّرت الحرب الافتراضات الأساسية بشأن أمنهم وعلاقاتهم مع الغرب. ولا تستطيع الولايات المتحدة تفكيك المحور بسهولة ولا هزيمة الأفكار التي وَلَّدته. والسبيل الوحيد لإبعاد الريح عن أشرعة المحور هو إنهاء الحرب في غزة والتفاوض على تسويةٍ حقيقية وعادلة للقضية الإسرائيلية-الفلسطينية. وما لم يتم ذلك، فإنَّ المحور سيكون واقعًا إقليميًا سيتعيَّن على الولايات المتحدة مواجهته لسنوات عديدة مقبلة.

  • نَرجِس باجوغلي هي باحثة في الأنثروبولوجيا وأستاذة مساعدة في دراسات الشرق الأوسط في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز. وهي مؤلفة مشاركة لكتاب “كيف تعمل العقوبات: إيران وتأثير الحرب الاقتصادية”.
  • وَلِي نصر هو أستاذ ماجد خدوري للشؤون الدولية ودراسات الشرق الأوسط في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز. وهو مؤلف مشارك لكتاب “كيف تعمل العقوبات: إيران وتأثير الحرب الاقتصادية”.
  • يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورين أفّيرز” الأميركية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى