ستّةُ أشهرٍ من الحرب، ماذا عن غزّة ولبنان؟

الدكتور ناصيف حتّي*

أشهرٌ ستّة مَرّت على الحَربِ في غزّة. ويبدو أنَّ التَعثُّرَ في الوصولِ إلى “هدنةٍ إنسانية” تحتَ عنوانِ وَقفٍ مؤقّت لإطلاق النار، كانَ يجبُ أن يُنجَزَ خلال شهر رمضان، ما زالَ مُتَعَثِّرًا في حربِ الشروطِ والشروطِ المُضادة والسقوفِ المُرتَفِعة لتلك الشروط. هدنةٌ إذا تمَّ التوصّلُ إليها ستكونُ هَشّةً وقصيرةً في عمرها. إسرائيل تستمرُّ في تكرارِ أهدافها في القضاء كُلّيًا على “حماس” وفي إخضاعِ القطاع عسكريًا وأمنيًا لإشرافها، مع “تكليفِ” قوةٍ دولية عربية لإدارة القطاع على أن يبقى تحت السيطرة الاسرائيلية. وهذا  أمرٌ بالطبع غير قابلٍ للتحقيق كُلّيًا، فلا يوجدُ طرفٌ، لجُملةٍ من الأسباب، يرضى بأن يكونَ بمثابةِ شرطيٍّ يخدمُ استراتيجية إحكامِ السيطرة الإسرائيلية على غزّة فيما لو حققت أهدافها. لقد صارت الأهدافُ الإسرائيلية المُعلَنة مجرّد عنوانٍ لحربٍ تبدو أنها ستكون مفتوحةً في الزمان.

لكن ما ظهرَ من بدايةِ تَغييرٍ، ولو تدرّجي، في الاستراتيجية القتالية الإسرائيلية بدون التراجع، على الأقل على مستوى الخطاب، عن الأهدافِ المُعلَنة للحرب، إعلانُ إسرائيل العمل على إقامةِ منطقةٍ عازلة بين شمال القطاع وجنوبه لمنع أهل القطاع من العودة إلى المنطقة الشمالية باعتبار أنها تُشَكّلُ مَصدَرَ الخطرِ الرئيس بموقعها الجغرافي بالنسبة إلى إسرائيل.

ملاحظةٌ أُخرى لا بدَّ منها في هذا السياق، من دونِ إسقاط هدفِ إخضاع و”تنظيف” رفح، تتمثّلُ ببدايةِ تغيُّرٍ تعتبره إسرائيل “موقّتًا” في اللجوء إلى ما يُعرَف ب”الضربات الجراحية” ضدّ أهدافٍ استراتيجية في رفح وغيرها في القطاع لضربِ “حماس” والقضاء عليها. ياتي ذلك في ظلِّ تصاعُدِ الانتقادات والتحذيرات من أطرافٍ صديقة ومؤيِّدة للعملية الإسرائيلية في غزة، ولكنها مُتَحَفّظة بشكلٍ مُتكرّر ومُتصاعِد على حرب الإبادة التي تقوم بها إسرائيل، في ظلِّ تصاعُدِ صوت الرأي العام الدولي والكثيرين ممن هم في مواقع السلطة في دولٍ مؤيِّدة للدولة العبرية ضد سياسة تل أبيب. لكن هذه المعارضة “الرسمية” ما زالت خافتة وخجولة خصوصًا من طرف واشنطن القادرة أن تفرُضَ على إسرائيل تغيير استراتيجية القتل العشوائي التي تتبعها منذ اليوم الأوّل ضدّ السكان ثم وقف العدوان. إستمرارُ هذا الوضع يندرجُ في ولوجِ سيناريو الحرب المُمتَدّة والمفتوحة في الزمان، والتي قد تشهَدُ تخفيضًا وتصعيدًا في القتال طالما أنَّ إسرائيل لم يُفرَض عليها التراجع عن الأهداف المُعلَنة منذُ اليوم الأوّل للحرب، والقبول بالوقفِ الكُلِّي لإطلاق النار وإنهاء العدوان. الأهدافُ الإسرائيلية هي ذاتها، ولو أنَّ هناكَ بدايةَ تغييرٍ في المُقاربة العسكرية لتحقيقِ تلك الاهداف غير القابلة للتحقيقِ أساسًا لأسبابٍ موضوعية وواقعية لا تخفى على أحد.

وعلى صعيدٍ آخر تبدو استراتيجية إيران وحلفائها التي تندرجُ تحت عنوان “وحدة الساحات” أحد العوامل الرئيسة في مَسارِ الحرب الدائرة. وتنشَطُ إسرائيل في تصعيد حربها في الجغرافيا والقوة النارية والنوعية ضد الساحة الخلفية الأساسية في وحدة الساحات التي هي الساحة السورية من حيث أنها تحتضن القدرات العسكرية الاحتياطية والداعمة عملانيًا لتلك الحرب وأيضًا القدرات البشرية النوعية بشكلٍ خاص. وتمتدُّ الأهداف الإسرائيلية من الجنوب السوري مرورًا بدمشق وحتى حلب كما شاهدنا أخيرًا .

وتبقى “الساحة” اللبنانية الأكثر ارتباطًا وبشكلٍ مُباشِر وعضوي ومُعلَن، أيًّا كانت عناوين ذلك الارتباط ،على الصعيد القتالي والأكثر فعالية في استراتيجية وحدة الساحات.

ويبدو أنَّ التركيزَ الإسرائيلي آخذٌ في التطوّرِ والازديادِ في ما يتعلّقُ بالجبهة الشمالية. وإذا كانت استراتيجية “وحدة الساحات” تَعتَبِرُ أنَّ وقفَ القتال في الجنوب اللبناني يرتبطُ مُباشرةً بوقف العدوان على غزة، فإنَّ إسرائيل “تَفصُل” بين الجبهتين في هذا الخصوص. وتصرُّ إسرائيل على أنَّ حربها القائمة والمُتصاعدة هذه، غير مُرتبطة بمسارِ حرب غزة وتوقّفها. والجدير بالذكر أنَّ الحربَ ليست بالضرورة اجتياحًا في الجغرافيا، بدون النفي القطعي لهذا الاحتمال، بل تصعيدٌ وتوسّعٌ في الأهداف، وفي القوة النارية وفي طبيعة وكثافة حجم العمليات من دون أيِّ قيود في جغرافية العمليات كما نشهد كل يوم في لبنان. وتُكرّرُ إسرائيل أنَّ هدفها الأساسي هو عدم العودة إلى الوَضعِ الذي كان سائدًا حتى السابع من تشرين الأول (أكتوبر) على الجبهة اللبنانية. الأمرُ الذي يعني إسقاط القواعد التي كانت ناظمة للوضع القائم منذ اليوم التالي لحرب ٢٠٠٦. وأيًا كانت الأهدافُ الصعبة التحقيق التي ترفعها إسرائيل، وهذا جُزءٌ من استراتيجيةِ التفاوض، فإنَّ استمرارَ هذه الحرب على الجبهة اللبنانية واحتمال انزلاقها إلى “نموذج ٢٠٠٦” يبقى أمرًا قائمًا رُغمَ الضغوطات الدولية على إسرائيل من طرفِ أصدقائها الفاعلين والمؤثّرين لتلافي ذلك.

فهل تعودُ الأطرافُ الدولية والإقليمية المؤثّرة، والتي لا تُريدُ هذه الحرب ولأسبابٍ مختلفة عند كلٍّ منها، إلى التفاهم، رُغمَ صعوبة ذلك في ظلِّ تشابك التطوّرات والمواجهات المختلفة بين بعض هذه الأطراف، إلى وضعِ التنفيذ التدريجي والفعلي للقرار ١٧٠١ على الطاولة؟ ويكونُ ذلك بشكلٍ مُتقدّم وفاعلٍ عمّا كان قائمًا منذُ ٢٠٠٦ غداة صدور القرار الدولي المُشار إليه. الأمرُ الذي قد يسمح بالتوصّلِ إلى صيغةٍ قد تكون شبيهة، رُغمَ اختلافِ الظروفِ على الأرض، وازدياد التعقيدات مع الحرب في غزة،، ب”تفاهُمِ نيسان ١٩٩٦” غداة العدوان الإسرائيلي ومجزرة قانا، وذلك  في سياقِ العمل على التنفيذ الكُلّي للقرارِ المُشار إليه، أم إنَّ لبنان سيبقى في عين العاصفة وعلى طريق المجهول والذي لا يجوز تجاهله .

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى