لا حلَّ إِلَّا بتحطيم الأَصنام

هنري زغيب*

ضجَّت مواقعُ التواصل الإِلكتروني (الأَربعاء الماضي 4 آب/أُغسطس – الذكرى الأُولى لانفجار مرفإِ بيروت) بالتعليق على ما شاهدَه متابعُو الشاشات من حُشود في ساحاتِ بيروت وشوارعِها وباحةِ مرفَإِها المشوَّهَةِ بالخراب المجرم تقاطَرَت تعبيرًا عن غضبٍ جارح، أَو تَضامُنٍ جامح، أَو رجاءٍ طامح، حِـيال ما بَلَغَهُ سياسيُّو لبنان من انفصال عاقّ وانفصام معاق عن ضحايا انفجار المرفإِ وأَهاليهم وذويهم وأَصدقائهم. وتفاوتَت تلك التعليقاتُ بين مُؤْلمٍ وحزينٍ ودسَّاس.

أُشِيحُ عن الأَلم والحزن -وهما بديهيَّان في استذكار عامٍ مضى على الفاجعة الوطنية- وأَلتَفِتُ إِلى دسٍّ ونَكَدٍ في مواقعَ إِلكترونيةٍ زادا الجرح نزفًا في الشقوق والتفرقةَ قذفًا في العقوق بِـمُنْدَسِّين يُفْسِدون صرخةَ الغضب ويُحَوِّرونها، ومُخَرِّبين في الشوارع يُفْسِدون احتجاجات الغضب ويُسَيِّسُونها.

هؤُلاءِ المأْجورون للتخريب لا يُـمَثِّلون غضبَ الأَهالي ولا صِدْقَ صَرَخاتهم الوجيعة المقهورة. الثورةُ ليست في تكسير واجهات المحالِّ ولا في تشويهِ شوارع العاصمة وتحطيمِ معالمها الـمُدُنية. هذه الممارسات تُشوِّه الصرخةَ والغضبَ والمطالبةَ بالعدالة، وتجعَلُها فئوية حزبية سياسية طائفية مذهبية مدسوسة. الثورة ليست كذلك ولن تبْلُغَ فجرَها إِن لم تُنَقِّ صفوفَها من الـمُنْدَسِّين، ولن تنجحَ في تحقيق التَغَيُّر إِن بقيَ المواطنون لا يلهَجون بالوحدة الوطنية إِلَّا فقط كلَّما وقعت كارثة أَو حلَّت نكبة أَو حدَثَت مصيبة. شعار “لم يَعُد في صفوفنا مسلمون ومسيحيون بل نحن لبنانيون” يجب أَلَّا يكون في الأَحداث الطارئة ولا في إِطلاق الـ”تْوِيتَات” والـ”پوستات” والـ”إِنستاغرامات” بل في مُزاولةِ المواطنيَّة اليومية. هكذا يكون التَغَيُّر.

التَغَيُّر يكون بأَن يعي الشعبُ اللبناني كيف يُلْغي من ممارساته عبارة “التَعَايُش” ويستبدلُها بمزاولة العيش، وكيف يعيش الـمُواطَنَة مع المواهب لا الـمُسَاكَنَة بين المذاهب، وكيف يتوحَّد صفوفًا متماسكةً خارج الطوائف والأَحزاب وإِلَّا فَسَيَبقى أَسير الطوائف والأحزاب، مُعَلَّقًا “بين البؤْس والغضب”، كما صدَر قبل يومَين غلاف مجلة “پاري ماتش” وفيه افتتاحيةُ أَنَّ بيروت تعيش “الحلْم المكسور”.

التَغَيُّر يكون بِـخَلْع الطُغاة عن مقاعدَ يتوارثونها للطغيان، وهذا لا يكون بإِعادتهم إِلى تلك المقاعد والعودة إِلى تغريداتهم الــ”تويتريَّة” التحريضيَّة.

والتَغَيُّر يكون بالإِشاحة عن أَخطاء الماضي وتهيئَة الحاضر لمستقبلٍ خارجَ نير المحتلِّين اليومَ عقولَ معظم المواطنين ونفوسهم وقناعاتهم السياسية البالية البائدة البائسة مُنْجَرِّين وراءَ َمن يَتَقاسمون البلاد بِـمُحازبين قَسَّموهُم قطعانًا كي يَسهُلَ عليهم ربطُهم بِـمَراسِنِهِم، ثم يتَمتَّعون بخيرات الشعب تاركين للشعب فُتَاتَ ما جَنَوه من خيراته.

والتَغَيُّر يكون أَلَّا نُصَدِّقَ بعد اليوم أَيَّ كلامٍ لأَيِّ سياسيٍّ يُقْنِع الناس بأَنه يَصْدُقُهُم القول فيما هو كذَّابٌ محترفٌ يخدِّرُ الناس بعباراتٍ هي قنابلُ موقوتةٌ ستنفجر بهم عاجلًا أَو… عاجلًا.

التَغَيُّر يكون بالنَدَم على مَن انتخبْناهم فَبَاعونا، وبالإِصرار على انتخابِ جُدُدٍ يستاهلون ثِقَتَنا ويستَحقُّون أَن يُـمَثِّلوا الأُمَّةَ اللبنانيَّة.

التَغَيُّر يكون بِوَعْيِنا أَن الشهداء والضحايا سَقَطوا من جميع المناطق والطوائف فَلا نُصَنِّفَنَّ بعد اليوم أَحدًا بطائفته أَو منطقة سَكَنِه كي نَسِمَهُ بانتماءٍ سياسيّ.

التَغَيُّر يكون بِأَلَّا يَدَّعي الوحدة عَلَنًا مَن يَعيشون الانقسام سِرًّا، وبأَن يتوَقَّفَ عن ادِّعاء السِلْم والسَلام عَلَنًا مَن يعمَلون على تأْجيج الحرب الصامتة بين اللبنانيين.

التَغَيُّر يكون بتحطيمِ الأَصنام لا بِـمِطرقةٍ ولا بأَدوات حادَّة بل بِوَرَقَةٍ طريَّةٍ صغيرةٍ ضئيلةٍ بِـحَجْم كَفِّ اليد، يُسْقِطُها اللبنانيون في صندوقة الاقتراع يومَ الانتخاب حتى يحصَلَ التَغَيُّر فعلًا لا قولًا فَيَبْلَغَ العدالةَ الشهداءُ والضحايا، ويعودَ لبنانُ حقيقيًّا… لا “تَكَاذُبيًّا” كما احَتَرفَهُ حتى اليوم مَن أَوصَلُوا شعبَنا أَن يكون شحَّادًا بائسًا على أَرصفة الدول.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر:  @HenriZoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى