ليس 4 آب فقط … بل كلّ الأيامِ في لبنان حِدادٌ في حِداد!

عبد الرحمن عبد المولى الصلح*

إذا كان المكتوب يُقرَأ من عنوانه فما كان على أيّ مراقب أن يُراهن على تشكيل الحكومة برئاسة الرئيس سعد الحريري ليس بعد 9 أشهر بل بعد شهرٍ واحدٍ من تكليفه!! كان جليّاً أن رئيس الجمهورية، ميشال عون، وصهره وزير الطاقة الأبدي جبران باسيل لا يريدانِه بدليل توجيه رئيس الجمهورية رسالة إلى المجلس النيابي يطلب من النواب تحكيم ضمائرهم بالرغم من أن الاستشارات النيابية افضت إلى تكليف الحريري. تُرى هل يتوجّب أن يتضمّن الدستور وجود نظيرٍ للرئيس المُكلّف يختاره رئيس الجمهورية ليتشاور معه في التأليف وتوزيع الحقائب؟ كان واضحاً أيضاً أن طهران من خلال “حزب الله” (الممثّل الشرعي والوحيد لها في لبنان) تُحبّذ إبقاء البلد معلّقاً لحين انتهاء طهران من مفاوضاتها مع واشنطن حول النووي، خصوصاً بعد تأجيل الجلسة السابعة الفاصلة في فيينا، وإذا كان هناك من حكومة بعد اعتذار الحريري فهي لن تكون إلّا حكومة “جبر خاطر”. مع الحريري أو ضدّه، عارضته أو ساندته، هناك إجماع بأنه يحظى بدعم عربي ودولي لا يتمتّع به سياسي آخر (وزير الخارجيّة الأميركي أنطوني بلينكن اعتبر اعتذار الحريري “خيبة أمل جديدة للشعب اللبناني” أما وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان: فلقد اعتبر ” اعتذار الحريري فصلاً مأسويّاً في عجز المسؤولين عن إيجاد حل للأزمة” “النهار 17-7-2021”). وللمرء أن يتصوّر تحسُّن سعر صرف الليرة مقابل الدولار في حال تم تشكيل الحكومة. ورُغم ذلك فقد تم استبعاده لمصالح شخصية آنيّة. تُرى هكذا تُبنى الأوطان والدول؟! وإذا كان استبعاد الحريري يعني في نظر البعض استبعاداُ للسُنّة في لبنان وهذا خطأ لا بل خطيئة في حق لبنان الواحد الموحّد، لبنان الرسالة كما وصفه بابا روما الراحل يوحنّا بولس الثاني. (اعتذر عن استعمال تعبير طائفيّة/ مذهبيّة فأنا علماني النشأة والتوجه، لكن متطلبات المقال تحتم ذلك). ذلك أن رئاسة الحكومة ليست للسُنَّة فقط، بل لجميع اللبنانيين، والأمر ينطبق أيضاً على الرئاستين الأولى والثانية. بِئس هذه المقولة والتي تعتمد اختيار الأقوى في طائفته. الثابت أن من روَّج لذلك فلمصالح شخصية ولعلّه نَسِيَ أو تناسى أنّنا شعب واحد. ثم أنّ التلطّي وراء المادتين 53 و 64 من الدستور…. ومَن يُشكّل الحكومة ومَن يُصدِر مراسيمها ما عاد ينطلي على أحد! فالثابت هو غياب النوايا الحسنة، الصافية والمودّات. والثابت أيضاً اعتقاد رئيس الجمهورية وفريقه الرئاسي ان تعديل الدستور ولو بالممارسة – الدستور الذي أقسم عليه حين تولّى الرئاسة – ممكن وجائز علماً أن النظام البرلماني هو السائد في معظم الدول، وعلماً أيضاً أن موقع رئيس الجمهورية في الدستور الحالي يعلو ولا يُعلى عليه فهو البوصلة السياسية التي تتجه إليه الأبصار. هو فوق الكل ولكن مع الكل. ولعلّه يجب التذكير أنه كلما غابت القناعة والتأسيس على ما سبق، لتعزيز وحدة البلاد والعباد والنهوض بالدولة، وأن الإنسياق إلى سياسات الهاوية لن تعود بالخير على اللبنانيين جميعاً، وبخاصة إخواني الموارنة.  فعلى سبيل المثال لا الحصر، لو تمّ اعتماد الاتفاق الثلاثي (28-12-1985)، ولو تمّ أيضاً الموافقة على اختيار مخايل الضاهر نتيجة مفاوضات الديبلوماسي الأميركي ريتشارد مورفي واجتماعاته في بيروت مع القيادات المارونية في (18-9-1988) لبقيت صلاحيات رئيس الجمهورية كما هي؟! إن الجنوح نحو الهاوية ولو على حساب كل اللبنانيين عنى ويعني أن التعويل على ضغوطات الدول المؤثرة (أضف إليها تمنيات الملائكة والقديسين إن وجدت!) للتعجيل بتأليف الحكومة رهانٌ في غير محلّه، فلا حياة لمن تنادي بدليل النتائج الكارثية لما حدث في العام 1989 حين كان العماد عون رئيساً للحكومة العسكريّة. أستشهد بما أورده البطريرك الراحل الكاردينال نصرالله بطرس صفير (راجع مذكّراته: “حارس الذاكرة- محاضر سريّة- ” جورج عرب، الجزء السادس، بيروت 1990 ) باختصار، يورد البطريرك صفير محاضر اجتماعاته مع كبار زوّاره من لبنانيين وعرب وغيرهم والتي كانت كلّها تشير إلى السياسات الخاطئة والانتحارية والتي أدّت إلى ما أدّت إليه.

إن تجربة عون كرئيسٍ للحكومة العسكرية في العام 1989 كانت تكفي للذين سعوا إلى انتخابه (الحريري وسمير جعجع) رئيساً للجمهورية كي يَعدّ إلى العشرة قبل العمل على انتخابه. فالثابت أن التسويات بالنسبة إليه هي شكل من اشكال الهزائم. وهناك من يدّعي بأنّ رئيس الجمهورية يستفيد من نوايا مخفية ل “حزب الله” تهدف إلى سطوة كاملة على مقدّرات الحكم من خلال إعادة صياغة دستور جديد وسلطة جديدة.

بالإمكان أيضاً الرجوع إلى الكتاب الجديد لفايز قزّي، الحليف السابق لرئيس الجمهورية (“حارس قبر الجمهورية”، دار سائر المشرق 2021). قزّي الذي كان لصيقاً بعون ظنّ ان العماد بإمكانه استعادة الجمهورية إلّا أنه اكتشف انه بات حارس قبر الجمهورية وحريصاً على التنازلات التي قدّمها ل”حزب الله” في سبيل الرئاسة.

في سياق عرقلة تأليف الحكومة واعتذار الحريري، فالأمر ليس محصوراً فقط بأهواء رئيس الجمهورية وفريقه الرئاسي لتعديل اتفاق الطائف، بل أيضاً بسياق المفاوضات الأميركية-الايرانية حول النووي. وللتذكير فقط فحكومة الرئيس تمام سلام استغرق تأليفها 10 اشهر و9 أيام (من 6 -4-2013 إلى 15-2-2014) لحين نضوج الاتفاق الاميركي-الايراني العام 2015 في زمن الرئيس باراك اوباما حول النووي، علماً أن الملف كان الشاغل الاساس لثلاث إدارات اميركية: اوباما، دونالد ترامب (الذي انسحب منه) وأخيراً جو بايدن. ويبدو أنه لا مناص إلّا بإطلاق سراح لبنان من الحجر الايراني … لذلك وبما أن تغيير النظام الايراني لم يكن على أجندة الادارات الأميركية السابقة ولن يكون في المستقبل، وحيث ان امتلاك طهران للنووي لا يعني استعماله بل هو في الواقع سلاحٌ للردع وليس للاستعمال، وهذا حال الهند، باكستان، كوريا الشمالية، وحتى اسرائيل، والذي لا خطر عليها من ايران لإنها تملك أكثر من 300 رأس نووي… لذلك يبدو أنه لكي نضع حداً لمآسينا وشقائنا… فما المانع كي تمتلك طهران السلاح النووي، ولكن بشرط التوقّف عن التدخل في شؤون الدول المجاورة لها والتوقف أيضاً عن زعزعة استقرار المجتمعات العربية والتحكّم بها، العراق، اليمن، سوريا وحتماً لبنان. وهذا، ولعمري لمصلحة طهران وواشنطن أيضاً. ففي تصريح سابق لأوباما بعد التوقيع على الاتفاق 2015، قال أن الأمر يعود لطهران بكيفية التصرف بالأموال بعد رفع العقوبات… فأما أن يتم صرفها على رفاهية الشعب الإيراني أو على الحروب التي تخوضها في المنطقة! الخبثاء رصدوا نيّة أميركية لتوريط إيران واستنزاف اموالها وقدراتها، ثم أن الأمر يعود بالمنفعة على واشنطن. صحيح أن اهتماماتها ترتكز منصبّة آلياً على الصين وشرق آسيا لكن زعزعة دول المنطقة ليس بالأمر السهل، وقد يضرّ في المدى الطويل بمصالح واشنطن. تُرى، هل يكون ذلك خشبة الخلاص لنا كي نُحقّق استقراراً ونهنأ بعيشنا؟ ولعلّ طوابير السيّارات التي تقف أمام محطات الوقود احد الشواهد على الوضع المتردّي الذي وصلنا إليه. تم التداول على وسائل الاتصال الاجتماعي، شريطٌ يُظهِر طوابير سيّارات على مسار اربع قرى جنوبيّة، وإذا أضفنا إليها طوابير السيارات في جميع المحافظات اللبنانية لكان بالإمكان حسب ما قال صديق لي أن تصل كل هذه الطوابير إلى القدس! قلت له لِمَ لا فبذلك نحقق أمنية الأمين العام ل”حزب الله”، السيد حسن نصرالله، الذي طالما دعانا إلى الصلاة في القدس (ولا أدري لماذا يحصر الدعوة في القدس وليس أيضاً في بيت لحم “مهد المسيح” وكأن فلسطين لمسلميها وليست لمسيحييها). نذهب ونعبّئ خزّانات سياراتنا بالوقود ونشتري الأدوية وحاجاتنا من الأغذية وقد نفعل ذلك برعاية الامم المتحدة لأننا سنكون تحت أعين العدو الاسرائيلي لعنه الله!! واذا قيل لنا كيف نتعامل مع العدو الاسرائيلي نردّ قائلين بأن العدو الاسرائيلي نفسه سبق وتعاون مع طهران زمن الخميني حيث عمل على توريد أسلحة بقيمة مليار دولار في حرب طهران مع نظام سلطوي، قمعي، أقلوي، مذهبي، شمولي كنظام صدّام حسين وهذا ما أكّده وزير الخارجية البريطاني السابق جاك سترو (صحيفة العربي الجديد “2-2-2020″) وقد كوفِئَ العدو الاسرائيلي انذاك بالسماح للإيرانيين اليهود بالهجرة إلى أميركا ولعلّ أفضل مرجع في هذا الخصوص كتاب لِ”تريتا بارسي” (Trita Parsi) “التحالف الخائن، المعاملات السرية بين إسرائيل، إيران والولايات المتحدة” (Treacherous Alliance, The secret Dealings of Israel, IRAN & The US. Yale University, 2007)

وبما أنّنا جئنا على سيرة العدو الاسرائيلي والحرب العراقية-الايرانية، فلا بأس أن نأتي على ذكر أميركا “الشيطان الأكبر” حسب زعم نظام الملالي في طهران لنُذكِّر بأن ابراهيم الجعفري، الأمين العام ل”حزب الدعوة” السابق ورئيس الوزراء العراقي الأسبق، قدّم لوزير الدفاع الأميركي الراحل دونالد رامسفيلد (1932-2021) سيف علي بن أبي طالب “ذو الفقار”. وللعلم، فالسيف يُعدّ أرفع وسام لدى الإماميّة عموماً لأنه السيف الذي أهداه النبي إلى عليّ بن ابي طالب، (رشيد الخيون “الذوبان بالخميني وذو الفقار لرامسفيلد، “الاتحاد” 7-7-2021)،  إنها لعبة المصالح. تُرى مَن يكترث لمصلحة بلاد الأرز ومن يتوقّف عن الادعاءات الشعبوية الطائفية والمصالح الخاصة وربط بلادنا بمصالح الغير؟

أدهشنا رئيس الحكومة المُستقيل حسّان دياب حين أعلن ان 4 آب/أغسطس هو يوم حداد وطني، وقد فوجئت بإعلانه هذا علماً أنّه كان ولا يزال من الضروري تخفيض عدد العطل الرسميّة والحثّ على العمل والإنتاج خصوصاً في هذه الأوضاع المتردّية، ورُغمَ تعاطفي وتضامني مع أهالي شهداء انفجار 4 آب – وهو للتذكير أكبر انفجار غير نووي شهده العالم- فيؤسفني أن أقول لهم بأن لا ينتظروا شيئاً من تلك التحقيقات، فعلى عكس الدول المتقدّمة فالفضائح تبدأ بخبرٍ صغير في إحدى الصحف إلى أن تكبر كرة الثلج وتبدأ التحقيقات ويتم التوصل إلى المتورّطين، اما عندنا فالعكس تماماً، فكلاسيكيات الفساد وركائز المنظومة السياسية تحتّم وتقضي بأن تبرز الفضائح كبيرةً ويتم لاحقاً وبشكل تدريجي التعامي والتغاضي عنها بدليل انه منذ الاستقلال لحينه لم يتم توقيف ومحاكمة أيّ متورّط في قضايا الفساد.

وخوفي أن يعتبر دياب إعلانه 4 آب كيوم حداد وطني إنجازاً يُضاف الى إنجازاته السابقة حين أعلن بعد 3 اشهر على تولّيه رئاسة الحكومة أنه تمّ تحقيق 97% من الوعود التي تضمّنها بيانه الوزاري. وكان الأَوْلى به أن يُعلن الحداد حين امتنعت حكومته عن تسديد اليوروباوند في آذار/مارس 2020 وعدم نجاحه في وضع حكومته لخطة مالية لمفاوضة صندوق النقد الدولي.

هل نُذكّر أيضاً تراجعه عن إنشاء معمل سلعاتا –في غضون اسبوع فقط- تلبية لرغبة جبران باسيل؟ اليس الذُّلّ، الهوان، القهر والألم والوجع واليأس والقنوط وفقدان الأمل التي يعيشها اللبنانيون جميعاً هو يوم حداد ؟! اليس يوم حداد حين يذرف رئيس الوزراء الاسرائيلي نفتلي بينت الدموع على لبنان واللبنانيين؟ اليس عجز الجهات الأمنية لوقف تهريب الوقود، الأدوية، والأطعمة هو ايضاً يوم حداد؟! في السياق نفسه أليس عدم الجرأة لإعلان مَن أتى بنيترات الأمونيا إلى مرفأ بيروت هو يوم حداد أيضاً؟! في السياق نفسه وأخيراً أوليس استمرار المنظومة السياسية في قضم الدولة ومواردها وبثّ دعوات التعصُّب المذهبي والطائفي هو أيضاً يوم حداد؟! ليس 4 آب فقط هو يوم حداد، بل مع الأسف، كل أيامنا أضحت حداداً في حداد.

نحن أشبه بباخرة تغرق وبسرعة. الرُّكّاب يستغيثون ، لكن لا حياة لمن تنادي. الرَّبّان، إن وُجِد!! ” فهو في عالم آخر”، يظنّ أن طوق النجاة الذي يتمسّك به وفريقه سينقذه! في مقابل الإجماع أننا في دولة منهارة (يحتل لبنان المرتبة 149 من اصل 180 دولة في مؤشر الفساد العالمي) مُنهكة، مُشتَّتة، مُرهِقَة، تنهشها المفاسد والمصالح الطائفية والمنافع الخاصة الضيّقة، يخطر في البال والذاكرة حين كانت الدولة في أوجها وكان الوطن شامخاً كأرزه! كانت البلاد برئاسة فؤاد شهاب الذي أحيا الدولة وأطلق مؤسساتها وشرَّع تنظيماتها وأرسى دعائمها. يومها، لم أسأل انا وغيري عن صلاحيات رئيس الجمهورية. ولماذا نفعل والدولة يرأسها رجلُ دولة بكل ما للكلمة من معنى، وحدوي، رؤيوي، وطنيّ، متبصّر، نزيه، حكيم، مترفّع، متجرّد، إلّا من سعيه لمصلحة ورفعة بلده، (يا الهي كم أن البون شاسع بينه وبين … الآخرين!!)، ديموقراطيّ حتى العظم وهو العسكريّ. هو المارونيّ العتيق الذي جعل لبنانيّتي تتقدّم على عروبتي وكرَّس انتمائي إلى لبنان الوطن ولبنان الدولة. حَرِصَ أن يتصدَّر خطاب القسم في المجلس النيابي ما يلي: “بين مركز قيادة الجيش حيث الصمت رفيق الواجب، ومنبر هذه الندوة حيث الكلام هو السيّد، مسافة لعلّها أصعب ما كُتب لي أن أجتازه منذ سلكتُ طريق الجنديّة” ويا أيها الراحل الكبير يؤسفني لا بل يؤلمني إفادتك أننا أصبحنا في قعر القعر. في الدرك الأسفل وأن كل وعود نظيرك الحالي لم تُبصر النور، إلّا وعداً واحداً فلقد وعدنا بجهنّم ولقد صدق وعده! ويقيني أن جهنّم الآخرة أقلّ وطأة من الجهنم التي يتلوّى بها اللبنانيون كل يوم. لم أهدف من إبلاغك ما سبق كي أعكّر صفاءك وأخدش سكينتك وأنا أعرف ان الله قد اختارك مع الأخيار الأبرار وأن رضواناً حارسك، والكوثر ينبوعك ونبعك … بل رغبت أن تُدرك كم نحن نفتقدك ونترحّم على غيابك. في قولٍ لِفيكتور هيغو: “ان الضريح الحقيقي للراحلين هو قلوب الأحياء. وكُن على يقين أيها الراحل الكبير أننا ما دمنا أحياء فستظلّ تخفق في قلوبنا وتبقى راسخاً في ذاكرتنا. أستودعك الله…. فخامة الرئيس!!

  • عبد الرحمن عبد المولى الصلح كاتب لبناني.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب”، لندن، توازياً مع صدوره في صحيفة “النهار” اللبنانية، بيروت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى