لن يبقى لهم وقتٌ لأَكاذيب الندم

هنري زغيب*

لم تبْقَ عبارةُ غضَب، ولا كلمةُ شتْم، ولا مفردةُ شماتة، ولا صرخةُ حقْد، ولا دُعاءَةُ لعنة، إِلَّا وصَفَعَ بها شعبُ لبنان هذه السلطةَ التي كانت حاكمة فباتت مُتحكِّمة بأَبشع صورة توتاليتارية لم يعرف لها شبيهةً لبنانُ وربما لن يعرفَ مثلَها شكْلًا مسْخًا في المستقبل، في أَيِّ مستقبل.

الناس مذعورون يبحثون بوَعي وبلا وعي عن دواء مفقود، والسلطة المتحكمة مهتمة بالبحث عن أَفضل السبُل لإِبقاء قبضتها على مفاصل الحكم، والبحث عن صورة زائفة لتبييض سحنتها السوداء مثل الفيول المنهوب.

الناس يصطفون كالقطعان المنصاعة مقهورين يشحدون بضعة ليترات من البنزين، والسلطة المتحكمة مصطفة باجتهادٍ للبحث في كيفية إِنجاح موسم السياحة مزدهرًا هذا الصيف، وكيفية تفعيل المرحوم مجلس محاكمة الرؤَساء والوزراء.

الناس يخافون أَن يمرضوا لأَن المستشفيات باتت أَقلَّ من مستوصفات حيال فقدان الأَدوية واللوازم الطبية وانقطاع الكهرباء عن آلات العلاج بانقطاع المازوت عن المولِّدات، والسلطة المتحكمة لا تخاف من أَن تهدر الوقت باجتماعات ولجان واستقبالات ومستشارين بين حكومة تُصرِّف الأَفعال غيرَ اللازمة ومسؤُولين غيرِ لازمين مهما التزموا.

أَهالي ضحايا انفجار المرفإِ ينتظرون اليوم الخامس الموعود لجلاء الحقيقة عما جرى ومرَّت سنة بجميع أَيامها ولم يأْت اليوم الخامس بعد، والسلطة المتحكمة تبتلع اليوم بعد اليوم ولا تغصُّ بدمعةِ أَرملة ولا بصلاةِ أُمٍّ فقدَت وحيدها ولا بشموعٍ تُضاء على ذكْر زوج أَو ابنة أَو خطيب.

الآتون من الخارج يُفْرغون نصف حقائبهم ليملأُوها أَدويةً مفقودةً من صيدليات البلاد، والخارجون من البلاد يُسرعون إِلى الهجرة غير ملتفتين وراءهم إِلى ماضٍ ولا إِلى حاضر، والسلطة المتحكمة تملأُ البلاد يأْسًا وحزنًا وتُفْرغ البلاد من أَنقى المواطنين فئةَ دمٍ وقلبًا منسلخًا عن أَهل وأَرض وحنين.

المتخرِّجون في هذه الفترة من السنة الجامعية يحملون شهاداتِهم الـمُشَرِّفة ومواهبَهم المتفردة وطموحَهم المكسور ويغادرون إِلى بلدان تتيح لهم أَفضل الفُرَص، والسلطة المتحكمة تُضيِّع يومًا بعد يومٍ كل فرصة لشعبها أَن يبقى على أَرضه، ولا تهتم لضُمور الدم في شرايين الوطن.

كلُّ هذا يجري ولا يخطر ببال أَحد من هذه السلطة المتحكمة أَن تكون لديه ذرَّة من ضميرٍ فيستقيلَ من الحكْم معترفًا بفشَله وعقْمه وسوء إِدارته وسقوط حكْمه، كأَنه على عرش عالٍ وكأَن الناس قطعانيون يزعجونه بطلباتهم ومطالباتهم واطِّلابهم ومَطالبهم التي تَملأُ وسائل الإِعلام ووسائط الاتصال.

قد يكون هؤُلاء الذين يرتعون اليوم في أَرائكهم يَنعَمون مرتاحين بما يقال إِنهم يعيشون بَعيدين في كوكب آخر، لكنهم غافلون عن أَنهم أَقرب مما يظنون إِلى مرمى الشعب، وأَن الشعب الذي كان يعرف أَنْ للصبر حدود بات يؤْمن اليوم أَنْ ليس للغضب حدود، وأَنَّ هؤُلاء الراتعين في السلطة المتحكمة لن يجدوا جُحرًا يلجأُون إِليه حين سينفجر بهم غضبُ الشعب بأَقسى من انفجار المرفإِ الذي ما زالوا يَتَذَاكَون بكل غباءٍ كي يتملَّصوا من مسؤُولية ارتكابهم أَو إِهمالهم أَو تغاضيهم عن الإِجرام، ويومئذٍ لن يعودَ لهم وقتٌ حتى للبكاء وصرير الأَسنان وإِطلاق أَكاذيب الندم.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر:  @HenriZoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى