ندّابو المَنظومة

راشد فايد*

أسبوعٌ وتدخل مجزرة مرفأ بيروت تحت عدّاد السنوات، بعدما كرجت عليها الأيام والأسابيع والأشهُر، وربما “يُتمسِح” الزمن أهالي الضحايا من شهداء ومُصابين ومهجّرين، واللبنانيين عموماً، ولا يعود لديهم سوى ذرفِ الدموع، وحريق الذكرى في الأحشاء، والغصّة في الحلق. فالوقائع تفشي بتصميم الطبقة السياسية على الإستهانة بدماء الضحايا، وتدمير قلب المدينة، لا سيما مَن هُم في السلطة، باسم “الإصلاح والتغيير”. فلم تُبدِ “المنظومة” السياسية همّة مفاجئة ولا واكبت تحرّك القضاء باعتباره سلطة مُستقلّة تملك قرارها بقوّتها الدستورية، كأقنوم من ثلاثة يستند إليها هيكل الدولة. وعلى فكرة، يلفتُ في تصريحات السياسيين المُتباكين على اندحار الدولة، استخدامهم هذا التعبير (المنظومة) لتحميل الآخرين مسؤولية تدهور الأوضاع، والإنسلال من المشهد الذي ساهموا مع الآخرين، بالفساد، أو الإهمال، في وصولنا إليه. لذا نجدهم أقرب إلى الندّابين في كل مرّة أرادوا أن يوصّفوا الوضع العام. حتى رئيس الجمهورية، ميشال عون، لا يشذّ عن هذا الدور في لقاءاته مع الوزراء والمُوفَدين الأجانب. فـ”إذا كان ربّ البيت بالندبِ ضارباَ، فشيمة أهل البيت كلّهم الهزل” (بالإذن من أبي الطيب المتنبي).

“المنظومة” العَظْماء أكملت جميلها مع ضحايا مجزرة المرفأ، أحياءً وشهداء، بحصانات ما أُنزِلت في دساتير العالم، ودسّها أسلاف الطبقة السياسية، منذ كان الإستقلال، من باب الفساد المُقَونَن، والذي يرقى إلى مرتبة العفو سلفاً عن جرائم قد يرتكبها المعنيون. ومن أسف أن يأتي ذلك فيما لا ينقص لبنان، في المحافل الدولية، المزيد من إظهاره دولة بلا سيادة، ولا سلطة، ولا حكم قانون، بأيٍ من المقاييس، فكيف والمستجدات، تُظهر الوزراء والنواب والمديرين العامين، فوق الشبهات، والأدقّ فوق القوانين، كأن كلاً منهم في مقام ملك الدنمارك الذي لا تجوز مُساءلته دستورياً، ويُعتبَر شخصه مُحصَّناً، كما حال ملك بلجيكا أيضاً.

هذه الحصانات تجعل اللبنانيين، أمام القضاء، طبقتين: العوام والمُحَصَّنون. الأوّلون مُتَّهَمون ولو ثبُت العكس، والآخيرون بريئون ولو تأكّد العكس. وما يُردّده الناس في دردشاتهم، بسذاجة مزعومة: لماذا يحتاج مَن وردت أسماؤهم، وعلا مقامهم، إلى حصانات وتعقيدات لمثولهم أمام القضاء. إذا كانوا بريئين من المسؤولية المزعومة؟ وماذا سينقص من هيبتهم إذا أدلوا بمعلوماتهم عن باخرة الأمونيوم؟ أما مَن غادروا مواقع المسؤولية بسبب التقاعد، فيجب تذكيرهم بأن رؤساء دول حُوكِموا وسُجِنوا بعد انتهاء ولاياتهم لجرائم أقل دموية، وحتى بلا دماء على أياديهم، كرئيس فرنسا الأسبق نيكولا ساركوزي الذي سجن، لثلاث سنوات، منذ آذار الفائت، في قضية تنصّت يقول الادعاء إن التحقيقات فيها أثبتت إبرام “اتفاقيات فساد” بين ساركوزي ومحاميه وقاضي تحقيق سابق في ملف رشى ليبية بين االزعيم الليبي السابق معمّر القذافي والرئيس الفرنسي السابق.

ثم أليس مجداً لنائبٍ أو موظفٍ أن يظهر خضوعه للقانون وساماً له، إن برّأه القضاء، أو لم يُسجَّل عليه أي شائبة، يؤكد انتسابه لـ”حزب الدولة” الذي فكّكه الزمن وقضت انتهازيات الأحزاب-الميليشيات على حصانته؟

لن يعفي الندب أهله الندّابين من دورهم في “المنظومة” كما لن تمحو “الحصانة” شكوك اللبنانيين في الإهمال الوظيفي كحدٍّ أدنى من مسؤولية المتحصّنين بالمحاكم الإستثنائية، كمحكمة الرؤساء والوزراء، ومحكمة القضاة، والمحكمة العسكرية، والمجلس العدلي وغيرها، وجميعها قُدّمت إقتراحات قوانين بإلغائها إسوة بكل دول العالم الديموقراطية.

  • راشد فايد هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @RachedFayed
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازياً مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى