إحتجاجات عُمان: تفوّق صحافة المُواطِن على إعلام الدولة

برزت خلال احتجاجات عُمان الأخيرة كفاءة صحافة المُواطِن على منصّات التواصل الاجتماعي لنقل الأحداث والتعبير بحرية عن الآراء، مُقارنةً بإعلامِ الدولة الذي ظهر مُتَخلِّفاً عن الأحداث ومُكَبَّلاً بالقيود وعاجزاً عن عكس حركة الشارع العُماني.

الدكتور عبدالله الحراصي: لماذا طالب المحتجّون بإقالته؟

رفيعة الطالعي*

إحتلّ مطلب إقالة وزير الإعلام العُماني المرتبة الأولى في قائمة مطالب المُحتَجّين الذين طالبوا في 23-27 أيار (مايو) 2021 بإصلاحاتٍ إقتصادية وفُرَصِ عملٍ في ظلِّ استمرار ارتفاع أعداد الباحثين عن عمل في سلطنة عُمان. من اللافت أن يحتل المطلب هذه المرتبة المُتَقَدِّمة في احتجاجات كان دافِعُها المُطالبة بتوفيرِ فرص عمل لعشرات الآلاف من الشباب العُماني. لقد أعاد هذا المطلب إلى الواجهة الحديث عن حرية الإعلام والصحافة في البلاد وعن مدى تمثيل الإعلام، سواء التابع للدولة أو الخاص، للمجتمع ومواقف الأفراد وآرائهم تجاه السياسات العامة والقضايا السياسية والاقتصادية التي تهمّهم.

وأثار المطلب، أيضاً، تساؤلاً بشأن كفاءة وسائل الإعلام وكفاءة القائمين عليها الذين يأتي في مقدمتهم وزير الإعلام. ورُغم أن هذه ليست المرة الأولى التي يُطالب فيها العُمانيون بإصلاح الإعلام وتغيير الوزير المسؤول عنه، حيث يَعتقدُ كثرٌ بعدم كفاءة وزير الإعلام شخصياً، لأنه يأتي من خلفية لا علاقة لها بالإعلام، غير أن مشكلة الإعلام في السلطنة هي أعمق من ذلك بكثير.

ظهرت قائمة مطالب المحتجين، في وسائل التواصل الإجتماعي، بإقالة وزير الإعلام ووزراءٍ آخرين في اليوم الثاني للمظاهرات التي بدأت في 23 أيار (مايو) 2021. كانت صحف اليوم التالي خالية من الإشارة إلى الإحتجاجات التي انطلقت في مدينة صحار حيث شارك فيها مئات الأشخاص، وشهدت حضوراً أمنياً مُكثّفاً، واستُخدمت فيها الغازات المسيلة للدموع، بينما نشط عُمانيون على وسائل التواصل الاجتماعي، لا سيما تويتر، لينقلوا مباشرة ما يحدث في الاحتجاجات، ويستحدثون الوسوم (هاشتاغات) مثل #صحار_تنتفض، و #صلالة_تنتفض، وينشرون مقاطع صوتية ومرئية. بدا للمحتجين أن عدم الإشارة للتظاهرات في وسائل الإعلام التقليديةتجاهلاً مُتَعَمَّداً، ليس فقط للتظاهرات وإنما أيضا للمحتجين ولمطالبهم، الذي شعروا أن حكومتهم لا توليهم أذناً صاغية، واعتبروا أن عدم نشر أي خبر عن الاحتجاجات هو دليلٌ آخر على فشل الإعلام في مواكبة الأحداث من جهة، وعلى عجز وزير الإعلام عن إدارة وتحرير وسائل الإعلام من القيود، وهيمنة رجال الدولة المُتنفّذين، وسيطرتهم على القرارات المتعلقة بما يبث وينشر في وسائل الإعلام، لا فرق في ذلك بين الوسائل المملوكة للدولة أو تلك التي يملكها القطاع الخاص، والذين قد تطال أيديهم الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي بموجب قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات.

خلال الأيام الخمسة للاحتجاجات، نشطت أدوات صحافة المُواطِن وانتشرت في عدد من المنصّات. كما استفاد المتظاهرون من تجربة احتجاجات 2011 التي انطلقت شرارتها أيضاً في مدينة صحار، من حيث التنظيم، والتعامل مع الطرف الآخر (السُلطات)، ونقل أحداث التظاهرات في صحار مثل وسم #صحار_الآن، والمدن الأخرى مثل #صلالة_تتضامن، وكذلك في الردّ على الإتهامات بالتخريب وباتباع أجندات خارجية. إضافة إلى وسوم تؤكّد أنه لا مكان للمُندسّين #لا-مكان-للمُندسّين، وتطالب بحريّة التجمّع السلمي.

في ظل غيابِ وسائل الإعلام التقليدية عن التغطية، نشر ناشطون مقاطع على اليوتيوب تُقدّم أحداث الاحتجاجات في صحار ومدن أخرى، يومياً، تذكر تفاصيل الاحتجاجات ومواقف الأطراف المُنخرطة فيها. كما نُشرَت رسائل صوتية توضيحية لمجريات الأحداث ومقاطع مصورة على تويتر، فايسبوك، وأنستغرام، وتم، تالياً، تداول هذه المقاطع والتسجيلات بواسطة تطبيق “واتساب” الذي يلقى رواجاً عالياً بين العُمانيين.

كان هدف المُحتجّين من نشر ونقل الأحداث والتوضيح هو حمل المواطنين العُمانيين على التعاطف معهم والإيمان بعدالة قضيتهم التي خرجوا للتعبير عنها وعن رفضهم للأوضاع الاقتصادية التي يعيشونها، وإظهار استيائهم من عدم اهتمام الحكومة وإعلامها بأزمة ارتفاع أعدادِ المُسَرَّحين والباحثين عن عمل، بالإضافة إلى الذين أُلزِموا بالتقاعد الإجباري الذي شمل 70 في المئة من موظفي الجهاز الإداري للدولة الذين أكملوا بين 25 و30 عاماً في الخدمة.

نتيجة لهذا الزخم لصحافة المواطنين، بدت ردود فعل السلطات العُمانية، وبخاصة الأمنية منها، مُستجيبة لما طرأ من تغيّر في سلوكها تجاه المُحتجّين، وحذرة في الوقت عينه من التغطية المباشرة التي قام بها ناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي. على سبيل المثال بعد استخدامها الغازات المُسيلة للدموع في اليوم الأول، وانتشار مقاطع فيديو بشكل واسع تُظهر تعامل أفراد الأمن مع المُحتجين السلميين، إنتشرت مقاطع في اليوم التالي تُظهر أفراد الأمن يوزّعون زجاجات الماء البارد على المُحتَجّين الذي خرجوا إلى الشارع تحت درجة حرارة بلغت 45 درجة مئوية. في حين أظهَرتهم مقاطعُ فيديو أخرى، وعددهم يفوق عدد المتظاهرين في مدن مثل بدية وصلالة وعبري وإبراء، وهم مكتفون بمراقبة سير التظاهرات بدون التدخل فيها أو محاولة تفريق المحتجين. هذا التعامل الهادئ، نسبياً، يُمكن أن يُعزى ليس فقط إلى تغطية الصحافيين المواطنين للأحداث، بل لأن هذه التغطية لفتت أنظار الصحافة العالمية، الأمر الذي لا تُفضّله حكومة عُمان في أحداث من هذا النوع، التي من وجهة نظرها، ويشاركها في ذلك بعض المواطنين، تُعطي صورة سلبية عن البلاد.

مثالٌ آخر، إطلاق سراح بعض قادة الإحتجاجات وأبرز وجوهها، مثل عبد العزيز البلوشي بعد يوم على اعتقاله، وأيضاً التضامن مع علوي المشهور الذي واجه حملة مُضادة بعدانتقاده أداء الحكومة في ملف الباحثين عن عمل، وهاجم عدم شفافية القطاع الخاص في تطبيق تعمين الوظائف، وذلك بعد انتشار وسمي #الحرية_لعبد العزيز_البلوشي، و#علوي_المشهور_يمثلني. ومن اللافت هو لجوء صحافيين وكتّاب معروفين إلى كتابة مقالات وآراء عن هذه الاحتجاجات في مدوناتهم الخاصة على فايسبوك أو نشرها على تويتر بدلاً من مناقشتها في وسائل الإعلام التي يعملون فيها. ومن المُلاحَظ أنه بعد الدور الذي اضطلع به مواطنون وناشطون، بجدارة، شرعت صحف محلية في مناقشة مشكلة الباحثين عن عمل والوضع الاقتصادي في البلاد.

كفاءة مسؤولي الإعلام وحرية الصحافة

تَفَوّقُ أداء المواطنين الصحافيين على وسائل الإعلام ذات الخبرة الطويلة والأدوات عالية التقنية، رُغم وجود صحافيين مخضرمين فيها، يُشير أولا إلى القيود الصارمة التي تتحكم في أداء وسائل الإعلام وفي الحرية المحدودة الممنوحة لها بموجب القانون، ويشير ثانياً، إلى عدم كفاءة وعجز المسؤولين القائمين على الإعلام عن إصلاح هذا الجهاز الحيوي للدولة ومواطنيها.

فعلى الرغم من أن النظام الأساسي للدولة، الدستور، يكفل حرية الإعلام والصحافة، غير أنه يربطه بمواد قانون المطبوعات والنشر، وهو قانونٌ يُقيّد الإعلام أكثر مما يمنحه من حرية الممارسة والأمان عند أداء العمل. ومن جانب آخر، بالنسبة إلى العُمانيين، لا تبدو آلية تعيين المسؤولين في المناصب العليا واضحة.

يرتكز تشكيل الحكومة/ات على تعيين مزيج من التكنوقراط وأبناء القبائل الكبيرة والمُتنفّذين في الحكومة والأعمال. ورُغم أن حكومات السلطنة تبدو مُتنوّعة ومُمَثِّلة لمكوِّنات المُجتمع العُماني، غير أن معايير اختيار الوزراء وأصحاب المراكز العليا، من هذا المزيج، غير مُحدَّدة، ولكن المعيار الواضح والمُحَدَّد هو أن يكون هؤلاء المُعَيَّنون يُدينون بالولاء الكامل للسلطات العليا. والواضح أيضاً أنهم، الوزراء ومن يليهم من المُعيَّنين، لا يملكون اتخاذ قراراتٍ جوهرية وذات معنى من دون الرجوع إلى هذه السلطات، التي لا تعود إلى المواطن العُماني في اتخاذِ قراراتها. المؤكد، هو أن كل القرارات والتعيينات تصدر باسم السلطان بوصفه رئيس البلاد ورئيس حكومتها.

كما أنه لا يوجد لمجلس عُمان بغرفتيه الدولة والشورى أي دور في اختيار الوزراء وذوي المناصب العليا في الحكومة. ولغياب المعايير أو لعدم وضوحها في التعيين، لم يفهم العُمانيون على سبيل المثال، السبب في بقاء عبدالله الحراصي وزيراً للإعلام بعد إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة في آب (أغسطس) 2020. كان عبدالله الحراصي، الحاصل على الدكتوراه في الأدب الإنكليزي، رئيساً لهيئة الإذاعة والتلفزيون برتبة وزير منذ العام 2011، وكان عبد المنعم الحسني، الحاصل على الدكتوراه في الإعلام، وزيراً للإعلام منذ العام 2012 وحتى آب (أغسطس) 2020 وعندما أعيدت الهيكلة، وبعد دمج هيئة الإذاعة والتلفزيون في وزارة الإعلام، أقيل الحسني من منصبه وحل محله عبدالله الحراصي، الذي واجه أداؤه انتقادات خلال سنوات رئاسته للهيئة. من الواضح أن استمرار الحراصي وزيراً لا يستند إلى معيار الكفاءة.

لماذا فَشِلَ إعلام الدولة وتفوّقت صحافة المواطن؟

تعود أسباب فشل الإعلام التقليدي إلى اتخاذ قرارات خاطئة بشأن عدم تغطية الاحتجاجات وتجاهلها، وفي الوقت عينه إلى الدعاية للحكومة وجهودها، فعلى سبيل المثال بث التلفزيون العُماني خبراً عن التوجيهات السلطانية بتوفير 32,000 فرصة عمل للباحثين فور صدوره، وكذلك الأوامر بتعجيل توفير هذه الفرص، كما نشرت كل الصحف المحلية الخبر في اليوم التالي. وأثبت هذا مرة أخرى عدم الاهتمام بما يقوله المواطن أو ما يحدث له مقابل ما يريد المسؤول الحكومي أن يُرسّخه في الأذهان. وأكد القرار، بعدم تغطية الاحتجاجات، أن عمل الإعلام في عُمان يخضغ لقرارات سياسية أكثر منها مهنية إعلامية، وهذا يقود إلى أن يصبح الإعلام فاقداً للمصداقية، لأنه لا يعرض سوى رؤية واحدة، ورأي واحد. في الوقت الراهن، يبدو الإعلام العُماني وكأنه يعمل في زمن غابر، بينما المواطن الصحافي يتقدّمه في نوعية الطرح ووسائل النشر والسرعة في مواكبة الأحداث، إضافةً إلى الحرية النسبية التي يتمتع بها فضاء التواصل الاجتماعي. وقد أوجد هذا الأمر فجوة بين ما يطرحه الإعلام التقليدي، وبين ما يتطلّع إليه المواطن العُماني.

هنا، يتبادر سؤال: هل تريد الحكومة العُمانية أن يتحسّن أداء الإعلام أم أنها مكتفية بتوظيفه سياسياً من أجل نخبة/فئة مُعيَّنة، تتحكّم مُنفردة، في مفاصل الدولة ابتداء من صياغة سياساتها، وتوجهاتها الاقتصادية، وانتهاء بالتعيينات وتوجيه الإعلام الى الوجهة التي تحافظ على مكاسب هذه النخبة، وتُديم استمرارها؟ إذا اختارت السلطات العليا في عُمان إصلاح الإعلام، فإن الخطوة الأولى لرفع كفاءته هي رفع القيود القانونية التي تُحاصر الصحافيين والمؤسسات الإعلامية، ومنحهم الأمان من العقاب والتهديد بالإغلاق، وفي الوقت ذاته تعيين مسؤولين أو قادة إعلاميين ذوي خبرة ويحظون بالاستقلال في اتخاذ القرارات المهنية، واضعين في الاعتبار أن لصوت المواطن مساحةً مُتساوية لتلك التي تُقدَّم للمسؤول الحكومي.

  • رفيعة الطالعي هي رئيسة تحرير “صدى” بالإنابة في برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي. يُمكن متابعتها عبر تويتر على: @raltalei. الآراء الواردة في هذا المقال تُمثّل كاتبة المقال.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى