ما بَينَ القضيّة الفلسطينية والقَضيّة اللبنانية

الدكتور فيليب سالم*

ليلةُ مولده في مغارةٍ في بيت لحم ، سمعَ صوتٌ من السماء يقول “لقد نزلَ المسيح فارتَفِعوا”.  واستقبلته الملائكة بالأناشيد “المَجدُ لله في العُلى وعلى الأرض السلام”.  وها قد مضى أكثر من ألفي سنة. نزلَ المسيح ولكنَّ الإنسانَ لم يَرتَفِع. نزلَ المسيح ولكنَّ الأرضَ لم تَرَ السلام. وفي الأرض ذاتها التي وُلِدَ فيها المُخَلِّصُ تدورُ اليوم حروبٌ لم يَرَ البشرُ بفظاعتها، وهَولِها من قَبل.  تقولُ إسرائيل أنها تُدافِعُ عن نفسها وأنَّ الدفاعَ عن النفس حق. ولكننا نُريدُ أن نسأل، وهل هو حَقٌّ قتل المدنيين الأبرياء، وتدمير منازلهم ومستشفياتهم، ومن ثم تهجيرهم إلى أرض غير ارضهم؟  لقد قتلتم أكثر من عشرة آلاف طفل، وهل هؤلاء الأطفال إرهابيون أيضًا؟ صُوَرٌ بعدَ صُوَرٍ. مَشاهِدٌ بعدَ مشاهد. وكوَمٌ من جُثث الصغار والكبار تملأ الطرقات والساحات. وكيف لا تنحني أمام آلام الفلسطينيين؟ وآلام هذا الشرق؟ ولا بدَّ لي كطبيبٍ أن أرتَعِدَ عندما أرى ما أرى. ها قد قضيتُ تسعَ وخمسين سنة وأنا أُعالِجُ المرضى. أعملُ ليلَ نهار، ويومًا بعد يوم، أسبوعًا بعدَ أسبوع، شهرًا بعدَ شهر، لشفاءِ مَريضٍ واحد. ثم تأتي الحرب ويأتي المُسَلَّحون ويقتلون آلاف البشر في يومٍ واحد. فأعود، وأنا المسيحي، إلى ما جاء في القرآن (سورة المائدة، الآية 32): “مَن قتلَ نفسًا بغَيرِ نَفسٍ أو فساد في الأرض فكأنّما قتلَ الناسَ جميعًا. ومَن أحياها،  فكأنّما أحيا الناسَ جميعًا”. أعودُ إلى هذه الآية لكي لا أخسرَ ثقتي بالإنسانية، اعودُ إليها لكي أحيا.

وقد تتساءل لماذا يَدعَمُ الغربُ إسرائيل في هذه الحرب دعمًا لا محدودًا وغير مشروط؟ فماذا حلَّ بقِيَمِ الغرب؟ وماذا عن العدالة؟ وعن حقوق الانسان؟ بل ماذا عن الإنسانية؟ الجواب هو انَّ الصهيونية العالمية كانت اغتصبت العقلَ في الغرب قبل أن تَغتَصِبَ الأرضَ في الشرق. لقد اغتصبت العقلَ بترويج الاساطير وتشويه الحقيقة.

الأسطورة الأولى تقول انَّ الله قد أوصى بهذه الأرض، أرض المسيح، إلى اليهود. وكأنَّ الله قبل “وفاته” طلبَ من كاتبِ العدل عنده أن يُسَجِّلَ هذا العقار من الأرض باسمهم. ولماذا لم يُسَجِّل الله أيَّ عقارٍ آخر من الأرض التي خلقها لايٍّ من الشعوب الأخرى التي تَسجُدُ له وتُمَجِّده؟ والأسطورة الثانية، هي أنَّ الله قد اختارهم ليكونوا شعبه الخاص. وكأنَّ الله مثله مثل زعماء الميليشيات في لبنان. وكأنَّ الشعوب الأخرى التي هو خَلَقَها ليست شعوبه. والأسطورة الثالثة هي أنَّ السامية قد أصبحت تَعني اليهودية. وأنَّ مُعاداةَ السامية تعني مُعاداة اليهود ومُعاداة إسرائيل. وها قد جعلت الصهيونية من مُعاداةِ السامية جريمةً لا تُغتَفَر. والحقيقة، وبحسب جميع المعاجم وكُتُب التاريخ، هي أنَّ كلَّ الشعوب التي تتكّلم لُغاتٍ مُنحَدِرة من اللغة السامية هي شعوبٌ سامية. فاللغة العربية واللغة العبرية هما لغتان تنحدران من اللغة الآرامية. والآرامية تنحدرُ من اللغة السامية. لذلك تكون معظم الشعوب التي تتكلّم العربية هي أيضًا شعوبًا سامية. ومُعاداة السامية هي ليست مُعاداةً لليهود فقط بل هي أيضا مُعاداةً للعرب. سُئلَ الفيلسوف الصيني كونفوشيوس يومًا؛ إذا أصبحتَ مَلكًا على البلاد، فماذا ستعمل؟ أجاب، أبدأ بتحديدِ الكلمات. لذا يجب علينا أن نُحَدِّدَ بالدقّة العلمية مفهوم السامية. وكانت الصهيونية طوَّرت المفهوم الجديد للسامية ليس فقط للدفاع عن اليهود بل للدفاع أيضًا عن إسرائيل. فأصبحَ كلُّ مَن يُحاوِلُ اليوم الكلام ضدّ إسرائيل أو انتقاد سياساتها يُحكَمُ عليه بالمُعاداة للسامية. هذه استراتيجية تهدفُ إلى قمعِ الفكر المُعادي لدولة إسرائيل، والمُخالِف لسياستها.  وهنا لا بُدَّ لي أن أُشَدِّدَ بأنَّ هناكَ فرقًا كبيرًا بين الصهيونية العالمية واليهودية العالمية. نحن نختلفُ مع الأولى ولكننا لا نختلف مع الثانية. نحنُ نعرفُ جيدًا ما قدّمه الشعب اليهودي في التاريخ والعالم من العلم ومن الحضارة. نحن نحترمُ هذا الشعب ولكننا نختلفُ مع إسرائيل ومع الصهيونية. نحنُ ندعو الصهيونية إلى احترام الله واحترام الحقيقة. والحقيقة هي أنه، وقبل قيام إسرائيل، كان هناك شعبٌ يسكنُ هذه الأرض وكان هذا الشعب هو الشعب الفلسطيني.

ونعودُ إلى لبنان، لبناننا. حُبُّنا الأوّل والأخير. لقد دعمتُ شخصيًّا كلّ حياتي القضية الفلسطينية، وكدتُ اخسرُ مركزي العلمي في الولايات المتحدة بسبب دفاعي العنيد عن الشعب الفلسطيني وحقوقه. إلّا أنَّ قضيتي الأولى والكيانية هي القضية اللبنانية. أنا لبناني أوّلًا وثانيًا وثالثًا وعربيٌّ رابعًا. وهنا يكمُنُ اختلافنا الجذري والعميق مع اللبنانيين الذين يدّعون العروبة. فهؤلاء هم فلسطينيون ومصريون وسوريون أوّلًا وثانيًا وثالثًا، وبالكاد لبنانيون رابعًا. ويسألونك، وهل هناك قضية لبنانية؟ نعم. هناك قضية لبنانية وهي قضية الشرق كلّه. إنها قضية الحرية والتعدّدية الحضارية في هذا الشرق. وحده لبنان في هذا الشرق هو نموذج التعدّدية الحضارية. وهذه التعدّدية هي التحدّي الكبير للمستقبل والأجيال المقبلة ليس فقط في الشرق بل في العالم كله. هذا هو التحدّي الحقيقي، وهو كَيفَ تُعانِقُ الأديانُ بعضها البعض بسلام، وكَيفَ تعيشُ الحضارات مع بعضها البعض بدون صراع، وكَيفَ تحترم الرأي الآخر والمُخالِف.

يمرُّ لبنان بأزمةٍ وجودية تُهدّدُ كيانه السياسي وكيانه الحضاري، وهو اليوم في حالةِ حربٍ مع إسرائيل فَرَضَها غيره عليه. ونَوَدُّ أن نسألَ، مَن يتكلّم اليوم باسم لبنان؟ وهل تجرؤ الحكومة أن تقولَ للعالم أنَّ لبنان ليس جمهورية “حزب الله”؟ هذه الحكومة ليست مَنقوصة الصلاحية فقط، بل هي منقوصة الشجاعة، ومنقوصة الموقف. نحنُ لا ننصب العداء ل”حزب الله” ولكننا نختلفُ معه “بأيِّ لبنان نُريد”. نحنُ نَتَّفق مع سماحة سيِّد المقاومة،  السيد حسن نصرالله، بأننا “امام فرصة تاريخية”، ولكننا نودُّ أن نقولَ أنَّ استرجاعَ الأرض وحده لا يُعيدُ لنا لبناننا. نريدُ استرجاعَ السيادة أيضًا. عندها يعود لبنان الى الحياة ويعود إلينا.

نَوَدُّ أن نقول ل”حزب الله”، إننا نحنُ وإيّاكم أهل هذه الأرض فتعالوا نتركُ الأمورَ الصغيرة جانبًا ونَتَّفِقُ على الأمور الكبيرة. تعالوا نَتَّفِق على نَبذِ العنف والحروب. كفانا حروبًا. لقد شبعت الأرض دماء. نُريدُ السلام. واستراتيجيتنا الدفاعية يجب أن تكون استراتيجية السلام. نحنُ لا نرفض فقط الانجرار إلى حربٍ شاملة مع إسرائيل، بل نرفض أيضًا الحرب الدائرة اليوم على الحدود الجنوبية. وهناكَ سؤالٌ نَوَدُّ الجوابَ عنه: أين أصبحت معادلة “المقاومة والجيش والشعب” التي انتم رفعتموها؟  وهل أصبحت المُعادلة “المقاومة، حماس، المحور”؟ وماذا حلَّ بالشعب؟ وما حلَّ بالجيش؟ وتعالوا نتَّفق على مفهوم سيادة لبنان وعلى بناء الدولة. وتعالوا نتّفق أيضًا أنه ليسَ بالإمكانِ بناء الدولة إن لم نتمكّن من العبور من إيديولوجية “العيش المشترك” إلى إيديولوجية المُواطَنة. لقد استعمل رجال الدين والدنيا عندنا مصطلح “العيش المشترك” للحفاظ على مصالحهم ومُكتسباتهم، وللتأكّد من أننا لن نُصبِحَ يومًا شعبًا واحدًا. هناك قضية فلسطينية وهناك قضية لبنانية. فتعالوا نتّفق على الجواب لهذا السؤال. هل نحنُ حاضرون لدعم القضية الفلسطينية؟ فجوابنا ألف نعم. ولكن هل نحنُ حاضرون أن نُقدِّمَ لبنان فدية عن القضية الفلسطينية؟  فجوابنا ألف لا.

وتقول الأسطورة أنَّ موسى وقف على الجبل ونظرَ الى الشمال،  فرأى جمالًا لم تره عين. فسأل الله، لِمَن هذا الجبل؟ فأجابه الله، هذا لبنان. هذه أرضٌ لم تطأها قدماك ولا قَدَمَي مَن يأتي بعدك. هذه الأرض هي وقف الله من الآن وإلى الأبد. كم أَوَدُّ أن أُصَدِّقَ هذه الأسطورة. إنَّ الاساطير لا تَصنَعُ المُستقبل.

  • الدكتور فيليب سالم هو طبيب وباحث وأستاذ ورجل دولة عالمي في طب السرطان، يعمل كمدير فخري لأبحاث السرطان في مستشفى سان لوك الأسقفية في هيوستن، وهو رئيس “مركز سالم للأورام السرطانية”. وهو مُفكّرٌ وكاتبٌ في الشؤون اللبنانية والعربية.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت)..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى