القُوَّةُ العالمِيِّة للولايات المتحدة تَبدَأُ –وقد تَنتَهي– في نِصفِ الكُرةِ الغَربي

كابي طبراني*

مع دخولِ الولايات المتحدة سنة انتخابية، أدّى الجمودُ التشريعي في الكونغرس إلى تَزايُدِ التساؤلات، من الأعداء والحلفاء على حدٍّ سواء، حولَ موثوقيةِ واشنطن في لحظاتِ الأزمات. ومع تقدُّمِ الرئيس السابق دونالد ترامب حاليًا على الرئيس جو بايدن في العديد من استطلاعات الرأي، تتزايدُ المخاوفُ في الاتحاد الأوروبي بشأنِ مدى قدرةِ الحزب الجمهوري الأكثر انعزالية على تقويضِ قدرةِ أميركا على إبرازِ القوّة المطلوبة في أوروبا والشرق الأوسط. مع ذلك، فإنَّ هذا التركيز على المنافسة بين القوى العظمى غالبًا ما يَصرُفُ الانتباهَ عن أنَّ أُسُسَ القوّة العالمية للولايات المتحدة -وأكبرَ نقاطِ ضعفها المُحتَمَلة- يَكمُنُ في قدرةِ واشنطن على مُمارسَةِ هيمنتها ونفوذها بدونِ عناءٍ على بابها الخلفي في نِصفِ الكُرة الغربي.

وفي حين أنَّ استثماراتَ الصين في جميع أنحاء أميركا اللاتينية وروابط روسيا الأمنية مع فنزويلا وكوبا قد أثارتا قلقَ صُنّاعِ السياسة الأميركيين في السنوات الأخيرة، إلّا أنه لم تتمَكّن أيُّ قوّة مُنافِسة من تهديدِ نفوذ واشنطن على جيرانها المُباشرين منذُ أوائل القرن التاسع عشر. لكنَّ التكلفةَ النسبية لهذا التأثير مُهمّة ولها معنى. سواء كان الأمر يتعلّقُ بالهجرةِ عبر الحدود الجنوبية، أو العلاقات المشحونة مع دولٍ مُعادية مثل فنزويلا، أو تأثيرِ عنف العصابات في الإكوادور، فإنَّ كيفية استجابة الولايات المتحدة للأزمات في منطقتها ستُحَدِّدُ إلى أيِّ مدى يُمكِنُ لواشنطن الحفاظَ على حرّيتها وقدرتها في العمل على مستوى العالم. وسوف يكونُ الضغطُ للرَدِّ موجودًا دائمًا، لأنهُ بدونِ موقفٍ مُهَيمِنٍ في نصفِ الكرة الغربي، فإنَّ الولايات المتحدة ستَجِدُ نفسها بسرعةٍ في الموقف نفسه مثل الاتحاد الأوروبي والصين والهند، التي يُقيّدُ عَدَمُ الاستقرارِ وتنافسُ القوى على طولِ حدودها قدرتها على إظهارِ القوة على المستوى العالمي.

من بينِ كلِّ التحديات التي تُواجِهُ المسؤولين الأميركيين والتي تُرَكّزُ على جيرانهم المباشرين، يُوَضِّحُ انهيارُ دولة هايتي مدى السوء الذي يُمكِنُ أن تؤولَ إليه الأمورُ عندما تتجاهلُ الجهاتُ الفاعلة المحلّية والخارجية التوتّرات الاجتماعية المُتصاعِدة التي هي نتاجٌ لإرثٍ تاريخي كارثي. ورُغمَ أنَّ بعضَ القضايا التي أدّت إلى هذه الكارثة تخصُّ المجتمع الهاييتي، فإنَّ المدى الذي تتغذّى به القوّة الهائلة التي تتمتّع بها العصابات الإجرامية من مستوياتٍ سخيفة من الفساد بين النُخبة في البلاد يُشَكِّلُ عاملًا يُمكِنُ العثورُ عليه في العديد من الدول الضعيفة الأخرى في المنطقة. إنَّ استعدادَ العصابات الهايتية لتدميرِ مناطق بأكملها في معارك على النفوذ والموارد بعد اغتيال الرئيس جوفينيل موييز في تموز (يوليو) 2021 هو مؤشّرٌ إلى ما يُمكِنُ أن يحدثَ على نطاقٍ أوسع إذا انتشرت هذه الديناميكيات إلى دول أكبر في المنطقة.

في ثمانينيات وتسعينيات القرن الفائت، كانَ للحروبِ الرسمية ضدّ الجماعات اليسارية المتمرّدة وعصابات المخدّرات ــفضلًا عن المعارك الضروس في ما بينهاــ تأثيرٌ مُدَمّرٌ على كولومبيا وبيرو. لكن خلال تلك الحقبة من الصراع، كانَ لا يزالُ بإمكانِ الجيش ووكالات إنفاذ القانون المَعنية في أميركا التنسيقَ مع مؤسّسات الدولة المتماسكة حتى في أضعف دول أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي. ومع ذلك، كما هو الحال في هايتي، إذا تبخّرت كل بقايا سلطة الدولة تمامًا، فإنَّ مثل هذه الفوضى يُمكِنُ أن تؤدّي إلى موجةٍ أُخرى من الهجرة وانعدامِ الأمن، مما يتطلّبُ مستوى من المشاركة من شأنه أن يبدأ في إضعاف قدرة واشنطن على الحفاظ على التزاماتٍ أبعد مسافة.

إنَّ التدفُّقَ الهائل لأكثر من 7 ملايين لاجئ من فنزويلا، حيث دَفَعَ سوء الإدارة الاقتصادية والفساد والقمع السياسي والنشاط الإجرامي المؤسّسات الفنزويلية إلى حافة الهاوية، يُقَدِّمُ مؤشّرًا إلى مدى الكارثة التي قد يُسَبّبها الانهيار الجُزئي للدولة على استقرار المنطقة. إنَّ مستوى الدمار الإقليمي الذي قد يَنجُمُ عن الانهيارِ الكاملِ للمؤسّساتِ في دولةٍ كبيرةٍ في أميركا اللاتينية سوفَ يكونُ أسوأَ من ذلك. ومع ارتباكِ الولايات المتحدة وشركائها الدوليين بشأنِ كيفيةِ مُساعدةِ الهايتيين على استعادةِ ما يُشبهُ سلطة الدولة، فلا يملكُ المرءُ إلّا أن يتخيَّلَ مدى الصعوبة التي ستواجهها واشنطن في صياغةِ استجابةٍ فعّالة لسيناريواتٍ مُماثِلةٍ تجتاحُ الدول الأكبر في جوارها.

إنَّ الطريقةَ التي يختارُ بها رؤساء الولايات المتحدة الاستجابةَ لمثل هذه الأزمات ستُحَدِّدُ بدورها ما إذا كانت مثل هذه الاتجاهات في المنطقة ستبدأ في إضعاف قدرة واشنطن على تركيز الموارد على الصراعات الأبعد. وحتى لو نجحت في تجنّب ذلك النوع من الانهيار الشامل للدولة والمجتمع الذي اجتاح هايتي في أماكن أخرى، فإنَّ المَزيجَ السام من الفقرِ المُزمِن وفسادِ النُخبة وقوّة العصابات الإجرامية من المُمكن أن يُوَلِّدَ نتائج مُزعزِعة للاستقرار. وتتعرّضُ الحكومة الأميركية بالفعل لضغوطٍ سياسية مُكَثَّفة لاتّخاذِ إجراءاتٍ صارمةٍ بشأنِ الهجرة وتهريب ال”فنتانيل” والمخدّرات الأخرى عبر الحدود الجنوبية. إنَّ الدرجةَ التي ستُخَصّصُ بها واشنطن الموارد لمُعالجة الظروف المتدهورة في أجزاءٍ من المكسيك وأميركا الوسطى والتي تُغذّي كلتا الظاهرتين ستُحدّدُ ما إذا كانَ من المُمكِنِ الحفاظ على الوضعِ الراهن الإقليمي الذي يخدم مصالح الولايات المتحدة.

وفي الاستجابات الاستراتيجية للأزمات في جميع أنحاء منطقة البحر الكاريبي وأميركا اللاتينية تُصبِحُ الاختلافاتُ بين رئاسة ترامب الثانية المُحتَمَلة وإدارة بايدن الحالية أكثر وضوحًا. على الرُغم من أنَّ بايدن تبنّى ضوابطَ حدودية مُقَيِّدة لتهدئة إحباط الناخبين بشأن الهجرة غير الشرعية، إلّا أنَّ إدارته لا تزال تحاول مواصلة التعاون مع الحكومات في المكسيك وأميركا الوسطى لمُعالجةِ التهديدات المشتركة وتعميق العلاقات التجارية. وفي مواجهة المنافسة الاقتصادية المتزايدة من الصين، التي أصبحت أحد الشركاء التجاريين الرئيسيين في المنطقة، تحرّكت إدارة بايدن لدعم القادة في دولٍ مثل غواتيمالا الذين هم على استعداد لدعم سيادة القانون، بينما يبذلون قصارى جهدهم لتجنّب المواجهة مع الحكومات المُعادية في فنزويلا وكوبا لتجنّبِ تفاقُمِ الشكوك الإقليمية حول نوايا الولايات المتحدة.

على النَقيضِ من ذلك، أكّدَ ترامب وغيره من كبار الجمهوريين المُتحالفين معه على اتخاذِ تدابير جذرية من شأنها إغلاق الحركة على طول الحدود مع المكسيك ومواصلة التصعيد -بما في ذلك التدخّل العسكري- ضدّ أيِّ جهاتٍ فاعلة حكومية أو غير حكومية تعتبرها حركة “ماغا” اليمينية التابعة لترامب تهديدًا لمصالح واشنطن. وإلى جانبِ هذا الخطابِ التحريضي، يُعرِبُ الجمهوريون في كثيرٍ من الأحيان عن إعجابهم بالزعماء المُستبدّين اليمينيين في المنطقة مثل الرئيس السلفادوري نجيب بُقيلة، الذي قام بتفكيك القواعد الدستورية في السلفادور لتمكينِ القمعِ العنيف لشبكاتِ العصابات. والأمرُ الأكثر إثارةً للقلق هو أنَّ الحزبَ الجمهوري بأكمله، من ترامب إلى الشخصيات الأكثر اعتدالًا مثل نيكي هيلي، تبنّى فكرةَ نشر قوات العمليات الخاصة لإطلاق ضرباتٍ مُوَجَّهة ضد العصابات والبنية التحتية للكارتلات في جميع أنحاء المنطقة، حتى في الحالات التي لم تقم فيها الحكومات المَعنية بدعوةِ أو مُعارضةِ التدخّلِ العسكري للولايات المتحدة.

في الوقت الراهن، قد يبدو هذا الخطابُ المُتَطرِّف المُتمثّل في “غزو المكسيك” بَعيدَ المنال. ولكن كما رأينا مع بؤرِ التوتّرِ الجيوسياسية في أجزاءٍ أُخرى من العالم، في جوٍّ من الاستقطابِ السياسي والتطرّفِ النخبوي، فإنَّ المُقترحاتَ التي تبدو في البداية على أنها عنيفة بشكلٍ غريب يُمكِنُ أن تُصبِحَ بسرعةٍ محورَ التدمير الذاتي للنهج الاستراتيجي للقوة العظمى تجاه جيرانها. إنَّ إدارة ترامب المُستَقبلية التي تنتهجُ خياراتٍ عسكرية تصعيدية بحثًا عن حلولٍ سريعة للمشاكل الهيكلية العميقة يُمكِنُ أن تنتهي في نهاية المطاف إلى توليدِ ذلك النوعِ من الفوضى الإقليمية التي من شأنها أن تُقوِّضَ قدرة واشنطن على التصرّف بشكلٍ حاسمٍ في أوروبا ومنطقة المُحيطَين الهندي والهادئ.

على الرُغمِ من أنهُ من غيرِ المُرَجّحِ أن تسلكَ إدارةُ بايدن مثل هذا المسار الخطير في ولايتها الثانية، فإنَّ تحدّياتَ السياسة الخارجية الأخرى -بالإضافة إلى الاضطرابات الداخلية التي لا مفرَّ منها من أنصار ترامب الساخطين- تعني أنها ستُكافحُ من أجلِ تركيزِ موارد كبيرة على التطوّرات في جوارها المباشر. وحتى لو بذلَ المسؤولون في واشنطن قُصارى جهدهم للمساعدة على معالجةِ المشاكل الهيكلية الأساسية في المنطقة، فإذا تمَّ التعامل مع مخاوفهم كأولوية ثانوية من قبل فريق بايدن، فسوفَ يكافحون من أجل الحصول على الزخم المؤسّسي اللازم لإحداث تأثير. على الرُغم من أنَّ تركيز إدارة بايدن على التعاون الإقليمي يمكن أن يتجنّبَ الكوارث التي تلحقها بنفسها، فإنَّ افتقارَها إلى المشاركة الأعمق في التطورات حول منطقة البحر الكاريبي وأميركا اللاتينية يزيد من احتمال فشلها في معالجة المشاكل المُتصاعِدة قبل أن تُصبِحَ أزمةً إقليمية أوسع.

وبمرورِ الوقت، يُمكِنُ للضرر الأوسع الناجم، إمّا عن مقامرات المواجهة التي يقوم بها ترامب أو الإهمال لبايدن المُشَتَّت، أن يُشجّعَ الدول في جميع أنحاء المنطقة على البحث في مكان آخر في الجوار للحصول على المساعدة. وعلى الرُغم من أنَّ البرازيل هي الدولة الوحيدة التي تمتلكُ الموارد اللازمة للاقتراب ولو من بعيد من لعب هذا الدور، فإنَّ مؤسّساتها تُواجِهُ في الوقت الحالي تحدّياتٍ داخلية كثيرة للغاية بحيث لا يمكنها تقديم بديل قابل للتطبيق من الهيمنة الأميركية. ومع ذلك، إذا أصبحت واشنطن غير قادرة على العمل كضامنٍ للاستقرار الإقليمي، فقد تنجذب القيادة البرازيلية نحو دورٍ أكثر نشاطًا، على الرُغمِ من التوتر الحتمي الذي قد يسببه ذلك مع الإدارات الأميركية غير المُعتادة على مواجهةِ تحدّي القيادة من داخل نصف الكرة الغربي. كما هو الحال مع دول أميركا اللاتينية التي قد لا تكون مرتاحة لاحتمال الهيمنة البرازيلية أيضًا.

وسواء كان ذلك باختيارها أو بالضرورة، فسوف تضطر الولايات المتحدة إلى الانخراط في وتيرة التغيير البنيوي السريعة في جوارها. وبدلًا من ملاحقة نقاط الحوار الشعبوية، ينبغي للمسؤولين والمُشَرِّعين في واشنطن تعزيز التوازن بين الأمن وسيادة القانون اللازم لتحقيق نتائج مُستَقرّة في جميع أنحاء منطقة البحر الكاريبي وأميركا اللاتينية. وإذا استسلمت أميركا بدلًا من ذلك لأسوَإِ غرائزها، فسوفَ تكتشفُ بسرعةٍ مدى اعتماد قوّتها العالمية على تأمين الحياة والحرية والسعي وراء السعادة لجيرانها.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر تويتر على: @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى