جَرائِمُ الامتِناع

﴿ولا تُطِعْ كلَّ… منّاعٍ  للخير معتدٍ أثيم﴾

قرآن كريم- سورة القلم

رشيد درباس*

ليست الجريمة في علمِ القانون فعلًا إيجابيًّا فحسب، يستحقُّ مُرتَكِبه العقاب؛ بل ثمَّةَ جرائم تحصلُ بالامتناع السلبي، وتترتَّبُ فيها مسؤوليةٌ جزائيةٌ على مَن يحجم عن إتيان سلوكٍ مُعَيَّن كان من شأن القيام به الحيلولةُ دون تحقّق النتيجة التي يُجرّمها قانون العقوبات. مثالُ ذلك أن يمتنع طبيبٌ عن إسعافِ مريضٍ فيلفظ أنفاسه، أو يُحْرَمَ مجنيٌّ عليه من الطعام فيموت، أو يعلم شخصٌ بوجودِ مشروعٍ تخريبي يُهدّد أمنَ الدولة فلا يُبلغ أولي الأمر، أو يتقصَّد امرؤٌ ألّا يعقل كلبه الشرس، فيتمادى في إلحاق الأذى بالناس.

ظاهر الأمور الآن أن الطبقة السياسية عندنا ترتكب جريمة امتناع، فتحجبُ توقيعَين على مرسومٍ يُعادل خيمة أوكسجين لشعبٍ يُعاني الاختناق، وتجتثُّ من حناجرِها خطاباً سياسيًّا خاليًا من الكراهية والأحقاد يحول دون اندلاع الحريق، وترفض تفعيلَ حاسة النظر التي تقينا من التوغّل في جهنم، وتكتمُ نفحة من شفقة تبلِّلُ القلوب اليابسة، وتفجِّرُ كلَّ ذَرَّة من تعقل قد يستعيد بها اللبنانيون شيئًا من أمان، ناهيك عن عرقلة سريان الدم في عروق الدولة وعدم التقيّد بالاستحقاقات الدستورية.

هذا المشهد قائمٌ على مُقامرة لا شك بالخسارة فيها، شبيهٌ بمسرحية عن مملكة ينصرف فيها ولي العهد عن إطفاء اللهب، إلى تزيين إيوان العرش بالشعارات وأكاليل الغار الافتراضية فيما ألسنة النار تلسعه فلا يشعر، كالديك الذي يسرقه حَدُّ السكين فيروحُ يُفرفِرُ ويصيح بلا هوادة، كأنه “ديكٌ من الهندِ، جميلُ الشَّكْلِ والقَدِّ”.

ولعلّ بين الامتناع والمُمانعة صلة نسب سياسية تتخطّى الجذر اللغوي بحيث تتحوّل السياسة إلى تحصّنٍ خلف متاريس الكلام، فيما إدارة البلاد تحتاج إلى الإقدام لا الخندقة، والابتكار لا الانتحار. فمنذ فترة طويلة يعيش لبنان بطالةً سافرة جعلت الدولة تُنفق المدّخرات والمساعدات والودائع، من غير أن تطرفَ عينٌ للاعبين الذين يمسكون بمفاصلها، فتشرَّدَ الطلاب مُتسكّعين على أرصفة الدول التي يتلقون العلم فيها، وتفاقم جوع الفقراء لخلوِّ مُستوعبات القمامة من الفضلات التي صار يضنُّ بها الأكَلَة؛ وأما اللاعبون فذهبوا إلى تعبئة الفراغ بالصراخ والسجال وتفريغ ما تبقى من مؤسسات، فما بقيت مصارف، ولا استقام قضاء، ولا وُضِعَت خطة حصيفة لتموين البلاد بكميات الشموع اللازمة لخدمة رومنسيتهم السياسية بعد التوقّف الوشيك لدوران العَنَفَات الكهربائية.

وغريبُ الأمر، أن المُمتنعين المُمانعين الذين يستثمرون في أعمالهم الضارّة، يتوهّمون أن هذا النهج سيفضي إلى الاستسلام العام لمشروعٍ مُخالف للطبيعة، وتسليم الزمام لِمَن احترف العدمية السياسية، كما لو أن سقوط قصر بعبدا وقيادة الجيش في أول العقد الأخير من القرن الماضي كان انتصارًا، والتسويةَ السياسيةَ في العام 2016 ضربًا من ضروب الشطارة. هكذا شكَّلَ المتطوعون درجات سُلّمٍ أوصلت إلى المركز الذي كان عَصِيَّ المنال، فلما تمّ الوصول جرى لبط السُلّمِ بعيداً بكل فجاجة، فِعْلَ من يجهلُ أن سُلَّمَ الصعود حاجةٌ ماسة للنزول الآمن، وهذا يُذكّر برواية ” أبي فوق الشجرة”: وصولٌ شاقٌّ، ونزولٌ محفوفٌ بأضرارٍ جسدية ومعنوية جسيمة.

ومن الغريب أيضًا أنه بعد تتويج المنصّة انبرى “الأنصار” للدعوة إلى قلبها والتحريض على دستورها (العفن النتن)، حتى قبل أن يجفَّ صدى القسم  بالحفاظ عليه،  كأنما أرادوا لليمين التي ارتفعت بالوعد، أن تحمل المِعْول لتهديم ما تعهّدت بالحفاظ عليه، بمجرد إنزالها.

في خطاب التنصيب على قمة التيار، قال المُنَصَّب ما حرفيته:” إما أن نحكم البلد، أو لا حاجة لنا بهذه الصخرة” فتقضقضت عظام سعيد عقل في ترابها، وغُصَّ  حِبْرَ بَيْتِهِ الشهير:

لي صَخْرة عُلِّقَتْ بالنَّجْمِ أسْكُنُها

طَارَتْ بها الكُتْبُ ..قالت تلك لبنان

ألا إن لهذه الصخرة أصحابها، ألا إنها ليست صخرة “سيزيف” التي أدمنت الصعود والهبوط، بل هي راسخة في ظل الأرز، حامية السهول والثغور، ببشاشة القفاز الأخضرالذي يمدّ اليد المرحّبة الطرية كالنبات، والساعد العنيدَ كالصوان. ومن يبني مجده السياسي على المقامرة بها، ينبغي له أن يعلم تمامًاً أن القمار لا يكون بمال الغير، وعليه من وجهٍ أخصَّ أن يدرك أن الخسارة ستحيله مع مشروعه إلى أزقة المُشرّدين.

ومن باب الإنصاف، أُوَضِّحُ أن جرائم الامتناع لا تقعُ على عاتق أهل المُمانعة منفردين، بل أكاد أقول إن الشعب  اللبناني، بمجموعاته وأحزابه وأفراده، شريك في هذه الجرائم، لأن التمادي في نحر الدولة، وجد له أكثرَ من عضُدٍ في الصمت والتخاذل والصراعات الداخلية، والتجاهل، والتسويات، حتى أصبحت الدولة برمّتها هيكلًا  فارغًا ومفرغًا، “فيما كلُّ حزب  بما لديهم فرحون”.

وأما ذروة المأساة اللبنانية فأن “الآذاريين” رفضوا الإقامة الطويلة في رحاب الحقيقة التي دعوا إليها، وآثروا البيات في الأول من نيسان.

أية بلادة هذه التي تحول دون تواصل المُتضرّرين من مشروع تهديم الدولة لاستنباط موقف “ممانع” صحيح بدل الاستنقاع في الامتناع.

أيّة شياطين تُحرّك نزوعهم للتنابذ بدل التفاهم؟ أي وهم يأوي إليه بعضهم “بتحييد” نفسه التماسًا لسلامة الرأس؟ وما الذي يحول دون أوسع مشاركةٍ مع الناس لإطلاعهم على الوقائع، وتبيان المخاطر وعقدِ “حلف الفضول” بين مَن جمعتهم المصيبة؟

من متابعة جلسة مجلس النواب وما تلاها من بيانات، نستنبط أن هناك مَن استطاب إعادة إنتاج نموذج “الجماهيرية العظمى” فراح يمارس الحكم المباشر بلا حاجة إلى وسطاء ومؤسسات، سنده في هذا تاريخ حافل، وفتاوى ليست سليمة تعبث بالدستور كأنه دمية من عجين، نجّانا الله من اللَّتَّات العجَّان.

لا يحق للشعب اللبناني أن يتخلّى عن زمام المبادرة، ويتفيّأ شجرة الانتظار الدولي، فمَن لا شجر له، لا ظلَّ له، ومَن لا برَّ له لا بحر له، كما قال محمود درويش، ومَن يُفرّط بهذا الكيان الثمين، فهو شريك في جريمة الامتناع العمدية مع سبق الإصرار.

أعود إلى المشهد السياسي فلا أرى سوى الفَشَلة، وأنظر إلى الهيكل فأستنجد بسوط السيد المسيح، ويُسائلني حدسي: “أوَليس لبنان بحاجة إلى أطباءٍ جُددٍ لديهم الكفاءة والنزاهة لمحاربةٍ ناجحة لهذا الكوفيد السياسي المُتناسِل والمُتحوِّل والمُتجَوِّل بين شعاراتٍ لفظية لم تُشكل يومًا مرجعية أو صدقية لمُطلقها؟

آخر البدع التي يلوّحون بها، بعد استهلاك الوقت والوسائل، بدعة الحديث عن استقالة من المجلس النيابي. تلك رسالة واضحة بإغراء مُتكرر ل”القوات اللبنانية” عنوانها الدعوة مُجدّداً إلى “وحدة الصف المسيحي” لاستنساخ انشطارٍ طائفي جديد يستنقذ الغرقى، ويفرغ لبنان من آخر المؤسسات الدستورية، في حين أن المآسي التي وحَّدت اللبنانيين والانتفاضات الشعبية المتتالية، تجعل ذلك الحلم الشيطاني مُجرّد خيالاتٍ مريضة.

يبقى أن أُشير إلى أن كُتّابًا ودارسين تحدّثوا في فشلِ تجربة الدولة اللبنانية المُوَحَّدة بحجة فشل التعايش بين إثنياتها ومكوّناتها المتعدّدة. لكنَّ هؤلاء فاتَهم أن نسبة الإثنيات إلى مجموع اللبنانيين ضئيلة، وأن التعايش شكَّلَ للمكونات الطائفية منجاةً من الاحتراب الداخلي الذي عرفته كلُّ طائفةٍ في الحرب وفي السلم. ولعلَّ فكرة لبنان كانت لهذه الغاية أي لمنع التطرّف والانغلاق المفضيين إلى الاقتتال. وإذا كانت الطائفية مرضًا كما يقولُ الجميع، فإن علاجَها لا يكون بالإغراق فيها، بل بالعيشِ المشترك الذي تحصِّنُه الدولة بمؤسساتِها ومهابتها.

  • رشيد درباس، وزير لبناني سابق يعمل بالمحاماة، كان سابقاً نقيباً لمحامي شمال لبنان.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازياً مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى