بيروت الناهضةُ من الأَرق إِلى الأَلق
هنري زغيب*
صورتان أَمامي تختصران الشهقةَ الأَخيرةَ لِـحُزْن الموت والشهقةَ الأُولى بفَرَح الحياة.
في قلب الوسَط المنكوب من بيروت، بعد انفجار مرفَإِها الضالع في التاريخ، شريانٌ صاعدٌ كما من بسَاطٍ أَرضيٍّ نابضٍ إِلى فضاءٍ رحبٍ نابض. تعدَّدتْ تسمياتُه لكنَّ وجهه البهيَّ واحد: يقال له “درَج مار نقولا”، ويقال له “درَج الجميزة” يَربط شارع الجميزة الحيوي بـحيّ السراسقة البهيّ، ومنذ اشتعل نشاطًا إِبداعيًّا، قبل سنوات، وَسَـمُوه “درَج الفن”، وحُقَّت له التسمية، يزيد على بهجة بيروت بهجة أُخرى تزيد من أَلق عاصمتنا الحبيبة ولها في كل قلبٍ منا نبضةٌ أَنَّى كنا في لبنان والعالم.
صورتان أَمامي: دمار وخراب وأَغصان مهشَّمة وفخَّاريات مُكَسَّرة وحجارة نازفة مبعثَرة على جبين الأَدراج، وصورة في المكان ذاته والأَدراج باسمةٌ والنوافذُ مهلِّلةٌ والأَبواب مرحِّبَةٌ والأَغصان مرنِّمةٌ والفخَّاريات مَزهوَّة بأزهارها، والحركة ناشطة فيها مسحَت دموع القهر والأَسى وحوَّلَتْها زغرداتِ رجاءٍ بعودة الحياة إِلى درَج الحياة، إِلى التفاؤُل الذي لا يَنكسر مهما نعبَتْ غربانُ الشُؤْم.
هذه هي بيروت. هؤُلاء هُم أَبناء بيروت. أُولئِك هُم عشَّاق بيروت أَهلًا وسُكَّانًا ومستثمرين وأَصحاب مؤَسسات تجارية وسياحية وفنية، جميعُهم عادوا بها إِلى وطن الجمال بعدما سقطَت في دولة الإِهمال.
هؤُلاء هُم اللبنانيون الأَحباب الذين، بعد الانفجار، هرعُوا يَحضنون بيروت بقلوبهم وزنودهم ولهفتهم يُلمْلمُون نثار الانفجار متَّخذين هُم القرار ولم ينتظروا القرار من أَلقاب “الفخامة” و”المعالي” و”السعادة”، ليَقينهم أَن الشعب اللبناني في دولة لا تستاهل نعمة الوطن.
هرعُوا إِلى النجدة بعدما شعروا كَم الشعب بات يَكره الطبقة السياسية، كم بات يشمئِزُّ منها، كم بات يُبْغضُها، كم بات يَـحتقرُها، كم بات يَرفضُها، كم بات يَلعنُها.
وليس جديدًا على الشعب اللبناني وَعيُه أَن البادرة الفردية في لبنان أَكبرُ وأَهمُّ وأَفعلُ من البادرة الحكومية في دولةٍ تنهار لأَن هيبتَها عقيمةٌ لم تَعُد تُقنع أَحدًا في لبنان ولا في العالم، حتى أَن المساعدات التي تقاطَرَت على لبنان بعد الانفجار العاهر جاءَت إِلى هيئَات المجتمع المدني ولم تَأْتِ إِلى جهات حكومية ثَـبُتَ عَفَنُها الفاضح وفَسادُ أَصحابها الذين شَوَّهوا وجه لبنان الرسمي في العالم.
صورتان أَمامي متجانبتان، تختصران حُزْن الموت وفَرَح الحياة، تختصران نُهوض المدينة من الأَرَق إِلى الأَلَق.
صورتان تُثْبِتان تَشَبُّثَ اللبنانيين العظيمَ بهُويتهم اللبنانية الواحدة الوحيدة، بعاصمتهم الحبيبة التي حبُّها في قلبِ كلِّ لبنانيٍّ من كلّ صقْع في لبنان، صورتان تُثْبِتان تَشَبُّثَ اللبنانيين بشَعبهم بَشَرًا لا يُقهرون، وبأَرضهم حَجرًا لا يُهمِلون، ويُثْبِتُون طَلاقهم من دولةٍ لم تُحافظْ عليهم فأَقسَمُوا أَلَّا يَخافوا عليها طالما هي فاسدةٌ يجبُ اقتلاعُها من جُذُورها وغَرسُ بذورٍ جديدة نقية لدولةٍ من لبنانيين ليسوا حُبُوبًا في سُبْحات السياسيين، ولا عيدانَ حطبٍ في مواقد السياسيين، وعندئِذٍ تبدأُ العودةُ تدريجيًّا إِلى لبنان الساطع الرائع العظيم تُتَوِّجُهُ، بِـهَيْبَتها الرائعة، نعمةٌ فريدةٌ من… نَـجمة بيروت.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib