قَوَافِلُ الهجرة نَحوَ الشَمال

عبد الرازق أحمد الشاعر*

ليست هناك هجرةٌ شرعية أبدًا، فكلُّ الهجرات تَحملُ في ثناياها ظُلمًا وقهرًا وجورًا. ولا يضطرّ مُهاجِرٌ إلى فراقِ وطن إلّا حين يَفتقِرُ إلى بقعةٍ يبني فيها عشًّا يواري جسده وذريته وأحلامه. يفرّ المرءُ من أبيه وأمه وأخيه وفصيلته التي لا تؤويه بحثًا عن هواءٍ يُطاقُ في أيِّ بلادٍ قد تكونُ أقلّ اضطهادًا للفقراء وأكثر تسامحًا مع العقائد والأفكار والرؤى. لكن المهاجر لا يستطيع أن يمنعَ عينيه من البكاء حين يحمله الحنين في عكس اتجاه الدابة، فيديرُ رأسه وقلبه نحو بلاد هي أحب البلاد إليه، وفي الوقت ذاته، يلوي عنق راحلته في الاتجاه البعيد.

“لا هجرة بعد الفتح،” يقولُ مَن لا ينطق عن الهوى، فلماذا تستمرُّ مواسم الهجرة من جنوب الكرة المضطرب إلى شمالها السعيد؟ يقولُ المفسّرون أنَّ الهجرة هنا مقصورة على الدَّينِ سببًا وعلى مكّة مكانًا. أي أنَّ قوافلَ الملهوفين الفارين إلى الشمال بحثًا عن لقمة عيش غير مغموسة بالذلّ ليست مشمولة بهذا الوعد الصادق. يؤكّدُ ما ذهبوا إليه قول المصطفى عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: “لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة”.

كتب علينا – أبناء القارة السوداء – أن نكونَ بدو هذا العالم الرحّل، وأن نُسدّدَ فواتير الهوان الذي لحق بخير أمة أخرجت للناس، وأن نتوزّع على أطراف الخارطة الملوّنة بإتقانٍ بدون أمل في إيابٍ وشيك أو وعدٍ بعودةٍ قريبة. لكننا نعلم يقينًا ونحنُ نحزمُ أمتعةَ السفر أننا لا نفرُّ بدِين، وإنما نفرّ لدُنيا حالَ بيننا وبينها أقوام من بني جلدتنا يتحدّثون لغتنا ويدينون بديننا. لا يمكننا الادعاء ونحن نضع أجسادنا المُنهَكة فوق أخشاب السفن المتهالكة أننا نفر بديننا إلى بقعة مباركة بحثًا عن ملاذٍ آمنٍ نعبدُ الله فيه.

لسنا كأصحاب الكهف الذين فروا بدينهم خوفًا من الرجم والفتنة. ولسنا كموسى الذي خرج بقومه غضبانًا أسفاً خوفًا من فرعون وملئه. ولسنا كمحمّد وأصحابه الذين تركوا خلفهم أرضهم وضياعهم وذراريهم بحثًا عن ملك عادل أو عن أنصار تقوى بهم شوكة الدين. لكننا نهاجر كعبيد إفريقيا الذين حملهم الاستعمار إلى أرضه من أجل الحرث والغرس، حتى هؤلاء كانوا أسعد حظًا، على الأقل كانوا يسافرون على متن سُفنٍ أكثر أمانًا.

ليست الهجرة من دار كفر إلى دار إيمان كما أوصى علماء الدين، بل هجرة من بلاد استحوذت أقليتها على أغلب خيراتها، فلم يجد المنكوبون من ذوي الفاقة فيها بُدًّا من رحيلٍ عاجلٍ فوق سفنٍ ذات ألواح مُتهالكة ودسر صدئة إلى بلاد لا يحكمها نجاشي ولا يسكنها أنصارٌ في مغامرة غير محسوبة. فإذا وقعت الطامة، وغرقت السفينة بمَن فيها وسط بحرٍ لجي من التجاهل العالمي والصمت الفاضح، فهو قضاء وقدر، وأقدارنا كلّها خير.

في موسم الهجرة النبوية، يحتفل المسلمون بهجرةٍ محمودة إلى بلاد مباركة لنشر دين حق، ويتجاهلون تمامًا قوافل المهاجرين الذين يغرقون بالآلاف على سواحل أوروبا في انتظار ملك عادل رُغمَ أنَّ العدالة ليست نجاشية بالضرورة، فليس هناك ما يمنع أن يكون النصير واليًا على قطر إسلامي عصم الله أبناءه من فتنة السفر إلى بلاد الغرب (الكافر).

لا ينبغي أن نتجاهل المهاجرين في ذكرى الهجرة، ولا يجوز أن ينفض حكام العالم الإسلامي، لا سيما الأغنياء منهم، أياديهم من الشباب الذين لا يجدون في عالمهم (الإسلامي) وليًا ولا نصيرًا. على علماء الدين أن يذكروا هؤلاء أن أجرَ لاعبٍ أجنبي واحد في فريقٍ مغمور كفيلٌ بإنقاذِ سفينة ركاب كاملة من شبح الجوع في بلادهم أو شبح الغرق على الشواطئ البعيدة. في ذكرى الهجرة النبوية، يجب أن يتصدى المسلمون لمهزلة الهجرة نحو الشمال، وأن يكونوا أنصارًا بحق لمن فقدوا الأمل في حياةٍ كريمة في بلاد المسلمين، وإلّا فبأي هجرة يحتفلون؟

  • عبد الرازق أحمد الشاعر هو أديب، كاتب وصحافي مصري. يمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني التالي: Shaer1970@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى