مصطفى فرُّوخ… ريشةٌ من ذهَب

بقلم هنري زغيب*

سلوى روضة شقير في محترفها

            (16 شباط/فبراير: الذكرى 64 لغياب الرسام الكبير مصطفى فرُّوخ)

كان ذلك بعد ظهر الأَربعاء 6 أَيلول/سـپـتمبر 2000، موعد الاحتفال الذي كنتُ أَعددْتُهُ صيفَئذٍ لإِزاحة الستارة عن البيت الصيفي الذي ابتناه الرسَّام المبدع مصطفى فرُّوخ (1901-1957) في بلدة عالَيه، ليُمضي فيه وأُسرته فصل الصيف. وكان انهدم بيتُه في بيروت (محلة البسطة التحتا) فزالت معالمه وزال إِمكاني إِبقاءَ ذكراه في ذاك البيت بلوحة رخامية تذكارية كما في مدُن العالم الحضاري.

السيارة تُصَعِّدُ بي صوب عالَيه، ومعي رائدةُ النحت الحديث في الشرق العربي سلوى روضة شقير (1916 – 2017)، وكنتُ طلبْتُ منها المشاركة في احتفال إِزاحة الستارة.

غامت عني سلوى في التذكار، وهي تتصفَّح بقعة جبلية نَعبرها: “الله على هذه المناظر كم أَتذَكَّرها”.

حَثَثْتُها تُكمل، فأَردفَت: “كنا نصطافُ في بلدة ضهور العبادية القريبة من بيت فرُّوخ الذي نذهب إِليه الآن في عالَيه. كان مصطفى يزورنا، متأَبِّطًا دفترَه والقلم، ويروح يرسم من شرفة منزلنا مناظر عالَيه والعبادية وبيروت، وتدور بيننا أَحاديث عن الريشة والإِزميل. كان يجمعنا الفن وتوحِّد بيننا الإِلفة”.

الشيخ الدرزي: ملامح الشخصية لا الشخص

حاربَ الموتَ بالريشة

وفي العلاقة العائلية؟ “كان يأْنس إِلى جلسات أُم فؤاد، خالتي والدة الوزير فؤَاد نجار ولاحقًا زوج شقيقتي أَنيسة. كان فؤاد يحبُّه، وساعده لدى المسؤُولين على تركيب الكهرباء في منزله الصيفي لأَن فرُّوخ لا يعرف كيف يتدبَّر أُموره لدى المراجع الرسمية”.

سأَلْتُها عن بيته الذي نقصده الآن لإِزاحة الستارة عنه: “كان يعني له كثيرًا. أَذكر أَنه في الصيف الأَخير من حياته (1956) كان يعمل بشكل متسارع، مع أَن المرض كان يقضم منه العافية. ذات يوم، على شُرفة بيته، وكان معنا جاره الدكتور مصطفى الخالدي وهو من حفَزَ فرُّوخ على ابتناء ذاك البيت، همَس لي فيما فرُّوخ يرسم: “غريب يا سلوى أَمر هذا الرجل: مرضُ اللوكيميا (سرطان الدم) حكَم عليه بالموت منذ أَشهر طويلة، وما زال يكافح ويرسم، كأَنه يحارب الموتَ بريشته، ولا سلاح في يده إِلَّا إِرادة الحياة”.

سأَلتُها تَصِفُه لي كما تتذكَّره: “نحيلُ الجسم، قصيرُهُ، حاضرُ السخرية، مترسِّلٌ للرسم لا يهدأ، طريفُ المعشر، لا يشكو، أَليفُ الحضور. وغالبًا ما كانت معنا في جلسات عالَيه زوجتُه ثريَّا تميم المعروفة بــــ”أُمّ هاني” رفيقتي في المدرسة الأَهلية. وبحضورها روى يومًا لنا بأُسلوبه الساخر كيف أَن أَهلها، بعد زواجه، كانوا يقولون: “زوَّجْـنا ابنَتَنا من شاب بيروتي، قصير إِنما آدمي، ابن عائلة إِنما للأَسف رسَّام ليس في يده مصلحة”.

فرُّوخ أَمام لوحته بريشته (1954)

فنّ لبناني لا “فنّ من لبنان”

هل كان دائمًا يرسم في بيته الصيفي؟ تنفعل سلوى: “في البيت؟ أَبدًا، كان لا يهدأُ في البيت. يتنقَّل طوال الصيف بين القرى والبلدات، بين التلال والوديان، يرسم بلا انقطاعٍ وبشغَفٍ مذهل، يلاحق التغيُّرات في هنيهاتِ النور والظل. كان يقول: “أُريد أَن أَرسم فنًا لبنانيًّا، لا رسمًا من لبنان”. لذا كان يَبحث دومًا عن لقطات تراثية: بوابة عتيقة، عين في ضيعة، صاج خبز ترقُّ عليه سيدة جبلية،…إلخ. أَذكر أَنني حضرتُ رسمه يومًا في إِحدى صيفيات الجبل وجهَ ناطور البلدية في عالَيه، فخرجَت اللوحة كأَنه يكاد ينطق. كانت له قوة مذهلة في رسم الـپـورتريه. كان يرسم النفسية والشخصية لا ملامحَ الوجه وحسب”.

وسامُ الأَرز من الرئيس كميل شمعون (1956)

وماذا تتذكَّر بعد؟ أَستزيدها قبل أَن نصل إِلى مكان الاحتفال. تبتسم وتروي: “ذات صيف كان التحضير لمعرض زراعي في ضهور العبادية بشعار “ما حكّ جلدَك مثل ظفْرك”. طلب منه منظِّمُهُ خالي حليم النجار أَن يرسم صورةً لشعار المعرض. سأَله فرُّوخ أَن يضع أَصابع يده اليمنى على رقبته كأَنه يحكُّها، وجعلَ يرسم فإِذا، لشدة براعته في الـپـورتريه، تَخرج صورة خالي لا صورة الشعار الزراعي. هكذا  كسبَ خالي الصورة وخسِرَها المعرض”.

بريشة فرُّوخ: معاوية يُبْحر من شاطئ لبنان

عين لاقطة وريشة طائعة

رغبتُ في استزادةٍ بعدُ، لكني ارتدعتُ حين التفتُّ فرأَيتها ساهمةً في البعيد تستحضر الماضي: “كان فنانَ الكاميرا، ذا عينين ثاقبتَين مُذهِلَتَي الأَمانة في النقل والتصوير بسرعة الكاميرا. وكم شاهدتُه على شرفة بيتنا الصيفي أَو بيته، يضع برشاقةٍ عَجلى عددًا من الرسوم الكاريكاتورية في جلسة واحدة. وذات يومٍ، في بيتنا، أَذكر أَنه وضع المخطط الأَول لإِحدى روائعه الخالدات: لوحة “الشيخ الدرزي” بدقَّة أَصابعه الجبلية وملامحَ رجوليةٍ قوية في وجه الشيخ الجبَلي العريق. يومها كان بيتُنا حاشدًا بزوَّار تحلَّقوا حوله يتابعونه وهو يرسم، ولم تستغرق منه تلك الجِلسة إِلا ساعةً أَو أَقلّ”.

مشاهدُ نوستالجيةٌ ممتعة تتالت من ذاكرة هذه الفنانة الكبيرة عن عبقريِّ ريشةٍ من ذهب، استحضَرَتْها بشغَف نابضٍ حتى كدتُ أَشعر أَن فرُّوخ معنا في السيارة.

بعدُ منها؟ يا ليت. كنا وصَلْنا، وكان عليَّ أَن أَفتتح الاحتفال.

 

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر:  @HenriZoghaib
  • صدر هذا المقال في “أَسواق العرب” تَوازيًا مع صُدوره في “النهار العربي” – بيروت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى