لا عاصم

بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*

 

في قريةٍ غير آمنة، لا يأتيها رزقها إلّا لماماً ولا يعيش أهلها إلّا على الكفاف، تجاور ُمتسَوِّلان على رصيف الحاجة: أما أحدهما فكان كسيحاً طريح العجز، وأما الآخر، فكان فاقد البصر. لم تجمع بين رفيقَي الرصيف إلّا الأكّف المفرودة والدعوات المحفوظة لأصحاب المنّة والفضل. لكن أحدهما لم يكن يُحب الآخر، ولم يكن في صدر الآخر مثقال ذرة من ودٍّ لأحدهما. ومرّت أيام التسوّل كسيحة بليدة. يبدأ اليوم ببسطِ الحصير ومدِّ فراشٍ مُهترئ لا يُسمن ولا يُغني من برد، لينتهي بعد الدريهمات القليلة التي تتسرّب من بين أيدي المارّة بصعوبةٍ بالغة. وفي طريق العودة إلى علبتَي الصفيح اللتين تأويهما، أو بالأحرى تواريهما، يقف الشحّاذان أمام الحانوت نفسه ليبتاعا خبزاً جافاً وقطعةً من الجبن تبلغهما بالكاد يوم مشقّة جديد.

إعتاد الرجلان برودة الرصيف كما اعتاد أهل القرية سماع نداءاتهما المُتوَسّلة كل صباح. ولم يُفكّر أيٌّ منهما في البحث عن رصيفٍ آخر، رُغم كثرة الأرصفة. ومرّت شهورُ البرد، من دون أن يتخلّى أحدهما عن بلادته أو موقع بؤسه. ولم يكن الربيع ولا الصيف ولا الخريف أكثر لطفاً أو تودّداً من الشتاء. بل كانت الفصول تتناوب تعذيبهما كلّ على طريقته. حتى جاء صباحٌ لم تُغرِّد فيه العصافير فوق رأسيهما كالمُعتاد، ولم تتواصل توسّلاتهما رُغم كثرة المارّين بهما.

إمتدّت ألسنةُ اللهب ذات غفلة من بيت إلى بيت، ووزّعت الريح غضبها على كلِّ المنازل والمزارع بالتساوي، فكان لكلِّ منزلٍ من منازل البلدة نصيبه من الدمار والهلاك. وخرج أهل القرية الآمنة من بيوتهم يتصايحون، وكادوا من فرط هلعهم يطأون الرجلين بأقدامهم العارية. وظل الرجلان يتقاسمان نظرات الرعب والمصير المجهول. وبعد أن علا صوت الأخشاب التي كانت تحترق حولهما في صمت وتسقط في غضب، أدرك الرجلان أن لا مفرّ من الموت.

كيف يفر الأعمى من نيران أتت على كل أخضر، وقضت على كل يابس؟ وكيف يلتمس طريقه في غابة تتشابك فيها الأغصان وتكثر الفخاخ؟ لو أنه كان يستطيع التفريق بين لونٍ ولون، أو بين طريقٍ وطريق! لكنه لم يرَ طوال سني بؤسه الفائتة إلا الأسود القاتم. ها هو الحر يقترب من جلده اليابس، وها هو اللهب يتربّص بثيابه المتآكله وبساطه التعس.

أما الكسيح فقد نظر إلى ساقيه نظرة انكسار، وظل يُحدّقُ في الأقدام وهي تتراكض في محيط عجزه، فينقل بصره من وجهٍ حزين إلى وجهٍ كئيب إلى منزلٍ مُحترق. لم يُدرك صاحبنا عظم مصيبته إلّا عندما أحّس بلفح النيران وهي تقترب من فراشه البالي وهو لا يملك لها صرفاً ولا دفعاً. وظلّ يُحدّق في ألسنة اللهب وهي تتقدم نحوه في تربّص وتنمّر.

بالطبع تنتظر مني أن أقول بأن عهداً جديداً من الترابط والأخوّة قد دفع رفيقَي العجز إلى التآخي ونسيان الثارات القديمة. تنتظر أن يحمل الأعمى الكسيح فوق كتفيه، ليُمسِك الآخر بأذنيه ويوجهه إلى طريق الخلاص، فينجوان معاً. لكن هذه النهاية لا تليق إلّا بأفلام الأبيض والأسود يا صديقي. لقد تقدّمت بنا الحضارة كثيراً وتعقّدت إلى أبعد حد، ولم تعد هذه النهايات المُفرِطة في السذاجة والمنطق تُقنعُ أحداً. الحقيقة أن أحداً لم يحمل أحداً. يُمكنك الآن أن تشعر بالبؤس وأن تتخيّل النيران وهي تتراقص في شغف أمام الجفون مغمضة وساقين غير مُكتملَين، وعقلَين تخلّيا عن جسديهما في لحظةِ رعبٍ خاطفة.

لا ملجأ من البؤس أيها الفارون من حمم الطاعون إلى جبال التمنّي، ولا عاصم من الشهقات والحشرجة أيها النائمون فوق أسرّةِ العناية. لا تبحثوا أيها الناظرون في أعين الأطباء عن عاصم من أمر الله، ولا تُفتّشوا في المساجد والكنائس والبيع والصلوات أيها الفارون من حلم الله عن ترياقٍ يُواري عجزكم. لن تمنحكم رشفات الأوكسجين المُعبّأ عُمراً فوق أعماركم أيها المشرفون على اليأس، ولن تصلح ما أفسده المرض في رئاتكم المعطوبة. فلا عاصم اليوم من أمر الله إلّا مَن رحم.

أكاد أرى بعيني بصيرتي نوحاً ينادي ولده الذي احتمى بخلق الله من غضب الله، وتمرّد على سفينة الرب، فكان مصيره الغرق المحتوم. أكاد أرى إبليس وهو يرفع رأسه في أنفة وكبرياء، رافضاً أن يتخلّى عن تمرّده في مواجهة الغضب الإلهي الشديد، ليقول مُشيحاً بوجهه عن آدم ومُشيراً إليه، “أنا خير منه”. فكان أن طرده الله من رحمته وإلى الأبد. أيها الجالسون فوق أرصفة هذا العالم الباردة، لا سبيل إلى النجاة من طوفان المرض إلا بسفينة التوبة، ولن تنفعكم أرحامكم ولا أمصالكم ولا معاملكم ومختبراتكم حتى تعودوا أذلّاء خانعين لربٍّ خلعتم نير طاعته تمرّداً، وظننتم أن جبال العلم وبروجه المُشَيَّدة قادرة على حماية صدوركم الضيّقة من غزو المرض وشهقات الموت. والله لا عاصم اليوم من أمر الله إلا بتوبة نصوح وأوبة صادقة، وإلا جرت علينا سنة الاستبدال، وحاق بنا ما كنّا به نستهزئ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.

 

  • عبد الرازق أحمد الشاعر هو أديب، كاتب وصحافي مصري. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني التالي: shaer1970@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى