لماذا تَختَلِفُ توقّعات النمو في الصين إلى هذا الحَدّ؟

القمّة المُقبلة بين الرئيس الأميركي جو بايدن والرئيس الصيني شي جين بينغ في سان فرانسيسكو ستُعقَد بخلفيةٍ غير عادية: إقتصادٌ صيني في ورطة واقتصادٌ أميركي يتّسم بالمرونة بشكلٍ مدهش. ولكن هل المشاكل التي تواجهها الصين مجرّد ركود، أم أنها علاماتٌ على انحدارٍ دائم؟

الإقتصاد الرقمي في الصين نجح إلى حين…

عبد السلام فريد*

ستتميّز القمة المتوقَّعة بين الرئيسين جو بايدن وشي جين بينغ في سان فرانسيسكو في تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري بخلفيةٍ غير عادية: إقتصادٌ صيني في ورطة واقتصادٌ أميركي مزدهر يتّسم بالمرونة بشكلٍ مُدهش. ولكن هل المشاكل التي تواجهها الصين هي مجرّد ركود، أم علامات على انحدارٍ دائم؟ لقد نُشِرَت بالفعل موجة من المقالات حول “ذروة الصين” تتنبأ بأن الصين لن تتفوّق أبدًا على الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة، بل وربما تتوقف عن النمو تمامًا.

غالبًا ما تكون الأعمال الداخلية للتوقّعات طويلة المدى غامضة، لكن الباحثيَن الأكاديميين رولاند راجان وأليسا لينغ من “معهد لوي” (Lowy Institute) في أوستراليا قدّما خارطة طريق احترافية وساعدا في تضييق نطاق عدم اليقين. فهما يبدأان بنموذج حساب النمو للصين بمعدل نمو قدره 6% للناتج المحلي الإجمالي الحقيقي، وهو متوسّط ما قبل الجائحة، ثم يُقيّمون ويُقدّرون بعناية التغيّرات في محدّدات النمو في الصين في السنوات المقبلة.

من الممكن التنبؤ بشكلٍ معقول ببعض العوامل، مثل التغيّر الديموغرافي: فالنمو السنوي بنسبة 1.7% في عدد السكان في سن العمل في الصين بين العامين 1980 و2010 سوف يتحوّل إلى انخفاضٍ سنوي بنسبة 0.9% من الآن وحتى العام 2050. وهناك عوامل أخرى، وخصوصًا تلك التي تؤثّر في إنتاجية إستثمارات المستقبل، والتي هي حاسمة ولكنها غير مؤكدة. وتُحدّد الأخيرة الكثير من الاختلاف في التوقّعات. (تحذير مهم: لم تؤخَذ في الاعتبار المفاجآت التكنولوجية أو الجيوسياسية الكبيرة).

واستنادًا إلى افتراضاتٍ مُتحفّظة، تخلص دراسة “معهد لوي” إلى أن النتيجة الأكثر ترجيحًا تتلخّص في تباطؤ النمو السنوي في الناتج المحلي الإجمالي الصيني الحقيقي إلى متوسط 2% إلى 3% حتى العام 2050، ولكنها لا تستبعد معدلات قد تصل إلى 5%. وتشمل هذه المتوسّطات معدلات نموٍّ مُبكرة أعلى وأخرى مُتدَنِّية في وقت لاحق. بدءًا من مستويات الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة والصين البالغة 25.5 تريليون دولار و17.9 تريليون دولار على التوالي في العام 2022، مع نموٍّ حقيقي بنسبة 2% في الولايات المتحدة و2% في الصين، سيظل الناتج المحلي الإجمالي الأميركي أكبر بنسبة 42% من الناتج المحلي الإجمالي الصيني في العام 2050، ولكن مع نموٍّ صيني بنسبة 5%، فإنَّ الناتج المحلي الإجمالي الصيني سيكون أكبر بنسبة 58% (بافتراض أسعار صرف حقيقية ثابتة).

وداخل هذا النموذج، تختلف البدائل المُنخَفضة والمُرتفعة في الصين بشكلٍ أساسي في الافتراضات حول حجم الاستثمارات المستقبلية وتكوينها القطاعي وإنتاجيتها. وسوف تعتمد هذه بدورها على الاستراتيجية الاقتصادية – سواء ظلت، كما هي الحال الآن، متماسكة ومُوَجَّهة إيديولوجيًا، أو تعمل على تعزيز ورفع عملية صنع القرار في القطاع الخاص وفُرَص السوق. نستكشف هذه البدائل في السياق الحالي أدناه.

الأزمة العقارية

تُعاني الصين من أزمةٍ عقارية عميقة. فالمبيعات وبدء البناء والاستثمارات تتراجع بشدة، ولن يتمكن سوى عددٍ قليل من كبار المطوّرين من الصمود والبقاء بدون عمليات إنقاذٍ ضخمة. إن الفقّاعة الضخمة ــالقائمة على عقودٍ من الاستثمارات التي تلاحق النمو السريع وارتفاع الأسعارــ تنكمش، جُزئيًا نتيجةً للسياسة الحكومية، وتترك وراءها أمثلة مذهلة على الإفراط في البناء. وقطاع العقارات في الصين ضخمٌ، حيث يبلغ حسب آخر التقديرات نحو 29% من الناتج المحلي الإجمالي.

وأبرز شركات التطوير العقاري الصينية -إيفرغراند، وكانتري غاردن، وسوناك- هي من بين الشركات العديدة التي تتجه نحو الإفلاس. ثلثا المطوِّرين الذين اقترضوا دوليًا تخلّفوا بالفعل عن سداد ديونهم الخارجية. وهناك المزيد من الأخبار السيئة: فقد تلقت أسعار العقارات دعمًا مُصطَنعًا من قِبَل الحكومة، وعندما تنخفض في نهاية المطاف فسوف يكون من الضروري الاعتراف بمزيد من الخسائر.

وبما أن 70% من ثروات الأُسَر الصينية مملوكة للعقارات، فسوف يستغرق الأمر سنوات لإعادة بناء ثقة المستهلك وخسارة القوة الشرائية. وتواجه الصين أيضاً مشكلة مُماثلة مع ديون الحكومات المحلية، التي تعادل ما يقرب من ثلث الناتج المحلي الإجمالي والتي بدورها تواجه انخفاضًا سريعًا في عائدات بيع الأراضي.

ورُغمَ خطورة أزمة الديون هذه، فمن المرجح أن تتمكن الحكومة من احتوائها من دون تهديد النظام المالي الصيني. لقد تمّ بناء النظام حول أكبر أربعة بنوك في العالم، والتي تمتلك أصولًا تعادل تقريبًا الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة. وجميعها مملوكة للدولة، ولديها إمكانية الوصول إلى رأس المال الحكومي، وتعمل بموجب توجيهات الدولة. وتسيطر الدولة في نهاية المطاف على الموارد والقواعد اللازمة لإعادة هيكلة الشركات المتعثّرة وتخصيص الخسائر ــ وتراقب عن كثب الاستقرار المالي.

إن إدارة الأزمات التي تقودها الدولة جارية بالفعل في كلٍّ من الشؤون المالية العقارية والحكومات المحلية. على سبيل المثال، تمت إقالة الرئيس التنفيذي لشركة “إيفرغراند” (Evergrande) وغيره من كبار المسؤولين التنفيذيين، لكن الشركة تستمر في الحصول على الأموال لإكمال المشاريع المُباعة مُسبقًا ولكنها غير مُكتَملة. ويمكن للحكومة أيضًا حشد الدعم المالي بسرعة، كما يتّضح من الحزمة الجديدة. (يقدم تقريرٌ عن مؤتمر “العمل المالي المركزي”، الذي اختتم أعماله أخيرًا، أعده وكتبه زيتشن وانغ وجيا يوشوان، المزيد من التفاصيل المؤسّسية).

المشكلة الجذرية

مع ذلك فإن التخبّطَ في الشؤون المالية لأزمة الديون لن يحلَّ أسبابها البنيوية. تستثمر الصين أكثر مما ينبغي في مشاريع غير مُنتِجة وتستهلك أقل مما ينبغي. وهذا إرثٌ من النمو السنوي الاستثنائي بنسبة 10.5% بين العامين 1990 و2010، وهو ما لم يكن ليتحقق لولا معدّلات الاستثمار المرتفعة للغاية. لقد تم الاعتراف بهذه المشكلة منذ فترة طويلة، ولكن الاستثمار اليوم لا يزال يُشكّل 43% من الناتج المحلي الإجمالي، في حين من المتوقع أن يهبط النمو إلى 3.9% سنويًا على مدى السنوات الخمس المقبلة (تستند القيم والآرقام الواردة في هذه الفقرة إلى بيانات صندوق النقد الدولي).

لقد استنزفت عقودٌ من الاستثمارات الضخمة في البنية التحتية والعقارات المشاريع المتراكمة ذات الإنتاجية العالية، وهي الآن تسحب الاقتصاد إلى الأسفل. إنَّ النمو في الصين لن ينتعشَ بالقدر الكافي لتبرير ارتفاع الاستثمارات؛ والاقتصاد يتباطأ لأسبابٍ جوهرية بما في ذلك شيخوخة السكان، وانخفاض الهجرة من الريف إلى الحضر، والتحوّل في الطلب نحو الخدمات.

مع ذلك فإن الاقتصاد الصيني الناضج من الممكن أن يزدهر وينمو من خلال تحويل الموارد إلى الاستثمارات التجارية المنتجة والاستهلاك العام والخاص. ولكن إذا انخفض قطاع العقارات، الذي يقدر بنحو 29% من الناتج المحلي الإجمالي أعلاه، بمقدار الثلث، فلا بدَّ من تعطيل نحو 10% من الإنتاج الصيني واستبداله بأنشطة جديدة.

ولا يمكن المبالغة في تقدير حجم هذا التحوّل؛ فهو سيؤدي إلى اضطراباتٍ واسعة النطاق في الإنتاج، وتشغيل العمالة، والأسواق، والاستثمارات، وموازنات الأُسَر والحكومة. ويعتمد نجاحها على مؤسّساتٍ مُعقّدة: نظامٌ مالي يكافئ الإنتاجية بصرف النظر عن الملكية، ونطاق اتخاذ القرارات التجارية اللامركزية، والإنفاق العام المنضبط.

لقد تجاوز نموذج النمو الصيني القائم على الاستثمار تاريخ انتهاء صلاحيته، ويرجع ذلك جُزئيًا إلى الصدمات غير المتوقَّعة مثل الأزمة المالية العالمية والجائحة. وسيكون من الصعب استبداله، ولكن المزيد من التأخير لن يؤدّي إلّا إلى جعل عملية الانتقال أكثر صعوبة.

حلولٌ وإيديولوجية لنمو الصين

في حين كان نمو الصين لا يزال مدفوعًا بالاستثمارات في العقارات والبنية التحتية في أوائل العام 2010، فقد ظهر أيضًا العديد من الصناعات الجديدة، التي تخدم المستهلكين من ذوي الدخل المتوسط، وتخلق فرصًا استثمارية جديدة. والقائمة مألوفة: الطاقة الشمسية، والمركبات التقليدية والكهربائية، والأجهزة الإلكترونية المبتكرة، وأحدث الخدمات عبر الإنترنت في مجالات التجارة والترفيه والنقل والتعليم. وكان هناك نظامٌ بيئي قوي آخذٌ في الظهور لدعم رواد الأعمال، بما في ذلك أسواق رأس المال الاستثماري مع عدد قليل من المنافسين باستثناء الولايات المتحدة. وكانت هذه هي الأسس الجديدة للنمو في المدى الطويل.

ولكن بحلول نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تغيّرَ المناخُ السياسي، وغالبًا على حساب الصناعات الجديدة في الصين. في خطاباته التي بدأت في العام 2015، أعاد الرئيس شي جين بينغ إحياء النهج الإيديولوجي في التعامل مع السياسة الاقتصادية، مع التركيز أولًا على التفاوت في الدخل، ولكن سرعان ما أعطى الأولوية للاكتفاء الذاتي التكنولوجي، والأمن القومي، وأولوية الحزب الشيوعي الصيني وقيادته.

كان تنفيذ هذه الاستراتيجية صارخًا ومزعجًا. في التحضير للمجلس الوطني لنواب الشعب الصيني في العام 2023، نجح شي في كبح جماح عملية صنع القرار وكشف النقاب عن أجندة واسعة تُركّزُ على السيطرة. إرتفعت حصة الشركات المملوكة للدولة في الإقراض المصرفي من 36% إلى 83% بين العامين 2010 و2016، كما شدد الحزب رقابته على الشركات الخاصة وترهيب الشركات الأجنبية. وتراجعت القرارات التجارية، من المنتجات إلى التمويل والقيادة، من أيدي القطاع الخاص إلى أيدي الحزب. ونتيجة لذلك، تراجعت ثقة الشركات المحلية والأجنبية في الصين. وتسجل الصين الآن أكبر تدفقات رأس المال إلى الخارج منذ العام 2015.

تغيير المسار قُدُمًا؟

إنَّ الاستراتيجيات التي تبنّتها الصين أخيرًا تُعيقُ الاستثمار التجاري والتقدّم في الإنتاجية، كما تعمل بالفعل على إبطاء النمو الاقتصادي. التوقعات التي تقول باستمرار هذه السياسات إلى أجل غير مسمى تتنبأ بالنمو عند الحد الأدنى لنطاق ما ذكرته دراسة “معهد لوي” الأوسترالي.

لكنَّ الصين قادرة على النمو بشكلٍ أسرع. إن ثلاثة عقود من الزمن فترة طويلة، وقد تعود البراغماتية الصينية ــ بل إن الأداء الضعيف قد يجعل هذا الأمر مُحتَملًا. التوقعات التي تترك المجال لانتعاش المبادرات والاستثمارات الخاصة من شأنها أن ترفع توقعات النمو في الصين على الأقل إلى الجُزء الأوسط من نطاق دراسة “معهد لوي”. صحيح أن الانتكاسات السياسية الضخمة نادرة في الصين، ولكنها حدثت بالفعل، حتى خلال فترة ولاية شي جين بينغ (“صفر كوفيد-19”).

وكما يزعم كبير الإقتصاديين في “فايننشال تايمز”، مارتن وولف، فإن الاقتصاد وحده يترك مجالًا كبيرًا للصين للحاق بالركب. ولم يتباطأ نمو الناتج المحلي الإجمالي في اليابان وكوريا وتايوان بشكلٍ كبير عندما تجاوز مستوى نصيب الفرد في الدخل الحالي لديها مستوى نصيب الفرد في الصين، والآن أصبح دخلها أعلى من الضعف. وبما أن العديد من المقاطعات الصينية قد اكتسبت بالفعل تكنولوجيات متقدمة بل وحتى رائدة، فإن الصين يمكنها أيضًا أن تستفيد من عمليات نقل أفضل الممارسات بشكلٍ أبسط داخل الدولة.

في الوقت الحالي، تتفق توقعات النمو المعقولة في الصين في الأمد البعيد على عوامل عدة تشير ضمنًا إلى تباطؤ كبير، ولكنها تختلف حول السياسات المستقبلية البعيدة. وتفسر هذه القواسم المشتركة والاختلافات نطاقًا يتراوح بين 2% إلى 5% في معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي حتى العام 2050. وإذا هبطت النتائج في هذا النطاق، فلن تهيمن الصين كما لن تختفي من زعامة الاقتصاد العالمي، ولكن النتائج عند الطرف الأدنى سوف تمثل عجزًا كبيرًا مقارنةً بإمكاناتها الاقتصادية.

  • عبد السلام فريد هو مراسل “أسواق العرب” في بكين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى