لماذا فَقَدَت تونس ثِقَتَها في الديموقراطية؟

جاسمين خليل*

في 11 أيار (مايو) 2024، داهَمَ عناصرٌ مُلَثَّمون من الشرطة التونسية مقرَّ نقابةِ المحامين واعتقلوا المحامية البارزة سُنية الدهماني. تمَّ القبضُ على الدهماني بسببِ تعليقٍ أدلت به على الهواء مباشرة، شكّكَت فيه في سياسة الرئيس قيس سعَيِّد المُناهِضة للمُهاجرين وادّعائه بأنَّ المهاجرين من جنوب الصحراء الكبرى –الذين تشير الدراسات إلى أن أنظارهم عمومًا مُوَجَّهة إلى أوروبا– يرغبون في البقاء في تونس. كان هذا الاعتقالُ التعسُّفي واحدًا من قائمةٍ طويلةٍ من الإجراءات القمعية التي نفَّذها، وما زال يُنفّذها، نظام سعَيِّد منذُ تولّيه السلطة في العام 2021. لقد تركت مثل هذه الإجراءات الكثير من الناس، وخصوصًا أولئك خارج تونس، يتساءلون كيف تَدهوَرَ تَحَوُّلُ البلاد إلى الديموقراطية الذي نالَ استحسانًا كبيرًا محلّيًا ودوليًا إلى ديكتاتوريةٍ استبدادية.

مع ذلك، فإنَّ الجوابَ كانَ واضحًا لأيِّ شخصٍ مُهتَمّ. لم ينجح التحوُّلُ الديموقراطي في تونس قط. في الواقع، بالكاد ارتفعَ عن الأرض. منذُ العام 2011، عندما أطاحت المظاهرات الشعبية الرئيس زين العابدين بن علي، وَعدَت الحكوماتُ المُتعاقِبة ذات التوجُّهاتِ السياسية المُختلفة بالمزيدِ من فُرَصِ العمل للشباب ومستقبلٍ مُستقرٍّ سياسيًا. في الواقع، انخفضَ نموُّ الناتج المحلي الإجمالي من 3.5% بين العامين 2000 و2010 إلى 1.7% بين العامين 2011 و2019. ومع انخفاضِ الإنتاجيةِ الاقتصادية، تباطأت فُرَصُ العمل والظروفُ المعيشية للشباب على وجهِ الخصوصِ بشكلٍ كبير. وفي العام 2005، كان 13.3% من الشبابِ عاطلين من العمل؛ بحلولِ كانون الأول (ديسمبر) 2013، ارتفعَ هذا الرقم إلى 31.9%. واستمرَّ الاقتصادُ التونسي في المُعاناة في ظلِّ الائتلاف الحاكم للرئيس آنذاك الباجي قائد السبسي مع حركة “النهضة”، حيث وَصَلَ الدين الخارجي للبلاد إلى 30.1 مليار دولار في العام 2016. وتبيَّنَ لاحقًا أنَّ حركة “النهضة” الإسلامية، التي تمَّ انتخابها في المقامِ الأوّل لأنها أعطت الأولوية للازدهار الاقتصادي، َ كانت وعودها فارغة لمؤيديها التونسيين.

كانت التوقعات أفضل كثيرًا في العام 2011. ففي كانون الثاني (يناير) من ذلك العام، نزل ملايين التونسيين إلى شوارع العاصمة، احتجاجًا على ارتفاعِ معدلات البطالة، وسوء الظروف المعيشية، وشبكات الفساد والقمع السياسي اللذين كان يرعاهما ويمارسهما نظام بن علي، الذي حكم البلاد منذ العام 1987. كُنتُ يومها في العاشرة من عُمري وأجلسُ على كتفَي والدي في إحدى هذه المظاهرات. كُنتُ أحملُ العلم التونسي في يديّ المُتعرِّقتين، وأهتُفُ بصوت عالٍ: “خبز، ماء، لا لبن علي” مع المتظاهرين الآخرين – وصلّيتُ من أجلِ أن تمتنعَ الشرطة عن إطلاق الغاز المسيل للدموع علينا. وفي وقتٍ لاحق من ذلك الشهر، فرَّ بن علي من البلاد وانهارَ نظامه.

أعقَبَ الثورة التونسية عَقدٌ من محاولاتِ التحوُّلِ الديموقراطي، وأسفَرَت جميعُها عن أزماتٍ اقتصادية وعدمِ استقرارٍ سياسي. ولكن في الخارج، استمرَّ الناس في رؤيةِ البلاد من خلالِ نظّارات وردية. لقد نالت تونس الإشادة بعد أول انتخاباتٍ تعدُّدية شَهدَتها، والتي عُقِدَت في تشرين الأول (أكتوبر) 2011. وكانت الانتخابات البرلمانية والرئاسية في العام 2014 سببًا في تعزيز الواجهة الديموقراطية في تونس. وفي العام 2015، حصلَ “رباعي الحوار الوطني التونسي”، وهو تحالفٌ مُكَوَّنٌ من أربع منظمات مجتمع مدني لعبت دورًا رائدًا في صياغة دستور العام 2014، على جائزة نوبل للسلام. وواصلت وسائل الإعلام والسياسيون الغربيون الإشادة بتونس باعتبارها منارةً للديموقراطية في المنطقة.

لكن، كيفَ يُمكِنُ لتونس أن تُصبِحَ دولةً ديموقراطية عندما لا تتمُّ تلبيةُ المطالب الاقتصادية والاجتماعية للملايين، بل يتمُّ تجاهلها؟ الجواب عن هذا السؤال هو أن “ديموقراطية” حركة “النهضة” تمَّ تمويلها من خلال أنظمةِ قروضٍ نيوليبرالية. القروض المَعنية جاءت من صندوق النقد الدولي، والاتحاد الأوروبي، والحكومة الأميركية، ومجموعة البنك الدولي. وبدلًا من استخدامِ الأموال لإنشاءِ نظامِ رعايةٍ اجتماعيةٍ يستهدفُ المناطقَ المُهَمَّشة، وبالتالي تخفيف الوضع الاقتصادي الكئيب الذي ثار ضده التونسيون منذ الثورة، استثمرته طبقةُ النُخَب التونسية في مشاريعها الخاصة. وتضمّنت النخبة المُقرَّبين السابقين من بن علي الذين أعادوا تشكيلَ أنفسهم كديموقراطيين، فضلًا عن الإسلاميين الصاعدين حديثًا. شاهدت الطبقات الوسطى والعاملة التونسية ثورتها وهي تُختَطَفُ من قِبَلِ هذه النخبة وداعميها الليبراليين الغربيين. واستمرّت الفجوة بين الطبقات الاجتماعية والاقتصادية في الاتساع. وتحوَّلَ الأملُ إلى يأس، ما أدّى إلى الحنين إلى زمن الديكتاتورية الاشتراكية للرئيس الحبيب بورقيبة في الفترة 1956-1987.

في الواقع، بدأ التونسيون المُحبَطون التفكيرَ بأنَّ الديموقراطية ببساطة لا يُمكنها أن تمنحهم ما كانوا يسعون إليه في العام 2011. وقد استفاد سعَيِّد من ذلك. في العام 2022، قامَ بصياغةِ دستورٍ جديد. ومن بين السمات الأخرى المناهضة للديموقراطية، تضمّنَ مرسوم القانون رقم 54، الذي سمح للدولة بالسجن لمدة خمس سنوات أولئك الذين ينشرون معلومات مُضَلِّلة ومعاقبتهم بغرامةٍ قدرها 50 ألف دينار تونسي (أقل بقليل من 16,200 دولار). ومنذ ذلك الحين، تمَّ استخدامُ هذا القانون وقوانين مُماثِلة ضدّ الأشخاص الذين يُعارضون الخط الرسمي. لقد تقلّصت حرّية التعبير، ما أدّى إلى وَضعٍ أصبح فيه اعتقالُ شخصياتِ المعارضة أمرًا مُتكرّرًا للغاية.

اليوم، تونس على حافةِ الانهيارِ الاقتصادي. مع ذلك، لم يَعُد الكثيرون من التونسيين يدعمون الإطار السياسي للديموقراطية. لقد فقدوا الثقة في أنَّ النظامَ الديموقراطي هو الأفضل، ناهيك عن الحاجة إليه، لتحقيق الرخاء الاقتصادي. مع ذلك، بدلًا من إلقاء اللوم على التونسيين لدعم الديكتاتورية من أجل الحصول على قدرٍ ضئيلٍ من الاستقرار الاقتصادي، فمن الأفضل للمُحلّلين الغربيين تسويق الديموقراطية على حقيقتها: تضخيم الأصوات المُضطَهَدة والمكبوتة. إذا لم تَكُن الديموقراطية مُرتَبِطةً بالاقتصادِ السليم، فلن يكونَ هناك سوى عددٍ قليلٍ من المُتقدِّمين والمؤيِّدين لها. تتجاهلُ الديموقراطية مبادئها الخاصة عندما تدعمُ فقط ما يتوافق مع السياسات النيوليبرالية الغربية ويَخنُقُ أصوات الغالبية. في نهاية المطاف، سوفَ تظلُّ ثورة 2011 في تونس غير مُكتَمِلة إلى أن يتمَّ تأسيسُ ديموقراطيةٍ حقيقية، واحدةٌ تستجيبُ أوّلًا وقبل كلّ شيء للمطالب الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين التونسيين.

  • جاسمين خليل هي باحثة مُتدرِّبة في مركز مالكولم كير كارنيغي للشرق الأوسط، وطالبة ماجستير في الصحافة ودراسات الشرق الأوسط في جامعة نيويورك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى