رياض سلامة والرقص على حافَّة الهاوية

البروفسور مارون خاطر*

رُبعُ قرنٍ ونيِّف مَضَت منذ عيَّنَت حكومة الرئيس الشهيد رفيق الحريري الأولى رياض سلامة حاكماً لمصرف لبنان. وفي العام السابع بعد العشرين، بقي لبنان أنقاض دولة وباتَ المصرف قابعاً تحت تلك الأنقاض. بعد كل هذه السنوات لم يتغيَّر إسم الحاكم ولا نوع الحكَّام. عُيِّن سلامة حاكماً في زمن ملوك الطوائف وأمراء الحرب الذي ربما لن ينتهي، فترأّس “المصرف الهامشيّ”، للدولة المُغتَصَبَة والمصارف المُنهَكة والعملة المنهارة. إستلم مهامه في حَقَبَة “السلام الموعود” الذي كرَّس الإعمار مَدخلاً لتحقيق الإزدهار وجذب الإستثمار ومحو آثار الدمار. إنطلق قطار الإعمار ونَفْض الغبار واضعاً لبنان في سباقٍ مع سلام الأقطار. إعتَبَرَ لبنان حُلُم السلام حقيقة يَقَظَة. تلاقت الأحلام فتوهج لَيلُ المنام. بُني المستقبل على الأوهام، وبدأت حكاية القروض العابرة للعقود والعهود!

أيقَنَ رياض سلامة أنَّ بناء قطاع مصرفي مُتماسك وقوي شرطٌ أساس للإستفادة من النتائج الإقتصاديَّة للسلام وممرٌ مُلزِمٌ لضمان دورٍ فاعلٍ للبنان في الشرق الأوسط الجديد. في العام ١٩٩٣ كان سوق القطع ساحة مضاربات مفتوحة يتحكَّم فيها قلةٌ قليلة من أصحاب المال والسلاح. بالتوازي مع إطلاق عجلة الإقتراض، بدأ سلامة محاولاته تخفيض سعر الصرف وضبط إيقاعه. تقاطعت مصالح مصرف لبنان والمصارف فشكَّلا منذ ذلك الحين ثنائياً مُلتصقاً لا ينفصل في منافعه ومضاره. ساهَمَ هذا الجهد المُشترك في العودة التدريجية لمركزيَّة دور مصرف لبنان فأصبح اللاعب الأقوى في سوق القطع. إلتزمت المصارف بسياسات المركزي فشكّلت الركيزة الأساسية لبناء الإحتياطي وتورّطت عَمْداً في تمويل الدولة. إلَّا أنَّ غياب لبنان عن الخارطة الدولية استمر طويلاً. سَقَطَ مشروع صندوق الإعمار العربي، وفَشِل المؤتمر الأول للمانحين إبان اعتداء نيسان (إبريل) ١٩٩٦، فأُصيب لبنان بسرطان الدَيْن ولم يُشْفَ الى الآن. في العام ١٩٩٨، وبعد أشهرٍ قليلة على تثبيت سعر الصرف على ١٥٠٠ ليرة، تجاوز حجم الدين العام سقف الناتج المحلي لأول مرَّة.

وفي ليلةٍ ظلماء سقطت الأوهام، إنهزم السلام وضاعت الأحلام. لم يَبْقَ من طيف المنام سوى جنون خدمة الدين العام وشرُّ التثبيت المُستدام. في أواخر تسعينات القرن الفائت، تجاوز مجموع الفوائد الإنفاق الجاري في الموازنات وفاق مجمل الإنفاق الإستثماري أضعافاً. خذلت السياسة وحساباتها الخاطئة الحاكم المتمرس في العقود الآجلة والتحوّط ضد الأخطار. غاب النمو الموعود وحلّ الفساد والهدر. وَجَدَ رياض سلامة نفسه راقصاً على حافة هاوية الإنهيار مُلزَماً، بل مُلتزِماً، بنار الإستدانة سبيلاً لتمويل الإعِمار المُبهَم المصير والمسار علَّ ليل لبنان يضحي نهاراً. خفَّفَ الرئيس الشهيد العائد إلى الحكم من هجعة الهاوية. تنفَّسَ لبنان جرعة أمل فرنسية فالتأم مؤتمر باريس الأول في شباط (فبراير) ٢٠٠١. قدَّم لبنان إلى المؤتمر “استراتيجية اقتصادية”، وسَيلاً من الوعود التي ما لبث أن تنصّل منها عند صياح الديك. لم تلتزم الحكومة إلّا بتثبيت سعر الصرف دواءً قاتلاً لداءٍ قاتل. إستمرَّ “الرقص المركزي” فصولاً ولم يتوقّف استنزاف أموال المُودعين. ساهم الضغط الدولي الإيجابي في عقد مؤتمر باريس الثاني في تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٢ على أنقاض فشل المؤتمر الأول. لَم ينجح المؤتمر بردم الهاوية بل بنقل الرقص على حافتها من “الوقت الرسمي” إلى “الوقت بدل الضائع”. ففي قاعة الإنتظار الدهرية للإنفراج الوهمي، بدأ المركزي استخدام القروض في عمليات استبدال سرطانية قاتلة تزامنت مع استمرار تمويل البلاد من أموال العباد.

أمَّا المحطة التالية في قطار الخلاص فكانت مؤتمر باريس الثالث الذي انعقد في كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٧ بحضور دولي وأممي لافت. إنهالت على مسامع المانحين وعود تُبشِّر بالإصلاح الآتي. تعهَّدت الحكومة خَفْض العجز والإنفاق العام والحدّ من تنامي الدَيْن وفعلت العكس. في العام ٢٠١٦ أطلق مصرف لبنان هندسات مالية لتأمين استقرار المالية العامة عبر امتصاص السيولة الدولارية من المصارف فدَقَّ إسفيناً في نعشِ الإستقرار الذي بناه. أضحى الإصلاح شرطاً مُسبَقاً للإفراج عن وعود مؤتمر “سيدر” الذي انعقد في باريس في نيسان (إبريل) ٢٠١٨، ولم يُشكّل عقبةً أمام إقرار سلسلة الرتب والرواتب ولا رادعاً أمام جنون المديونية. إن كان قانون النقد والتسليف يُلزِم المصرف المركزي بالإستدانة بناءً على طلب الحكومة، فهو لا يُلزم حاكماً أن يبقى في كرسيِّه.

لم يُهِّدد رياض سلامة الفاسدين بعرش الإستقرار الذي أرساه، بل استمرَّ بالرهان على يوم قيامة لبنان. جنَّد الحاكمية والمُودعين في سبيل تمويل الدولة عبر المصارف فأخطأ. أصرَّ على ضخ الحياة في جسمٍ نازف فَضَاع جنى العمر ولم يأتِ الخلاص فأخطأ. إستثمر رياض سلامة في العقود السياسية الآجلة فخانته البصيرة وأخطأ. طمأن اللبنانيين إلى حال ليرتهم وهي تُحتَضِر فخسر القلوب وأخطأ. أغرقه الإنتظار في رمال السياسة والسياسيين فأخطأ وأخطأ وأخطأ. ليس رياض سلامة حاكماً هاوياً يهوى الترنّح فوق الهاويات بل مُعلِّماً قديراً وخبيراً مُحنّكاً اعتمد سياسة “تطويل الحبل” مع مَن ظنّهم سيبنون بلداً فطار البلد…

 إنطلقت ثورة ١٧ تشرين/أكتوبر، ثورةُ الحق على الباطل والنورُ على الظلمة. رَدَمَت جثّة الإستقرار السياسي والإقتصادي والنقدي الهاوية السحيقة وانتقل الرقص من حافَّة الهاوية الى شواهد القبور. في خطوة تعكس استمرار شراء الوقت وسط لهيب النَّار، أعلن الحاكم منذ اسابيع قليلة أن “الأزمة الحادَّة باتت وراءنا”… لم يلتفت أحدٌ منا إلى الوراء، فنحن الوراء نفسه ولا يُمكن أن يكون شيء وراءنا. عشيَّة الذكرى السنويَّة للثورة، عادت القرارات الجائرة فسَجَنَ مصرف لبنان الليرة المُنهارة خلف قضبان المصارف وزادت أوجاع اللبنانيين أوجاعاً…

إنقسم اللبنانيون عبر السنين بين مَن أيَّد رياض سلامة ومَن عارضه إلى أن جاء اليوم الذي اصبحوا فيه جميعاً … “مع السلامة” …

  • البروفسور مارون خاطر هو أستاذ محاضر وباحث لبناني في الشؤون المالية والإقتصادية. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @ProfessorKhater
  • يصدر هذا المقال أيضاً في الوقت عينه في صحيفة “النهار” اللبنانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى