قَرارٌ أُمَمِيٌّ مَهَّدَ للضربات: أَيُّ رسائل لإيران والحوثيين؟

محمّد قوّاص*

لم تَكُن روسيا والصين بَعيدَتَين عن تَهيئةِ البيئة الدولية لاحتضانِ قيام الولايات المتحدة وبريطانيا بقَصفِ مواقع لجماعة الحوثي في الأراضي اليمنية. بدا أنَّ ظاهرةَ تَعطيلِ الملاحة في مضيق باب المندب والبحر الأحمر صارت شأنًا شائنًا شاذًا عن سياقِ العلاقات الدولية ومُناقِضًا لقواعدِ تَشغيلِ اقتصادِ العالم.

ولئن تختلف الدول الكبرى وتتنافر في شؤون السياسة والمصالح الجيوسياسية، لكنها، للمُفارقة، تتقاطع حين يمسُّ خطرٌ مصالحها الاقتصادية، وكثيرها مشترك، وبخاصة حين يأتي الخطر من “جماعةٍ” غير مُنخَرِطة في آليات المجتمع الدولي. وعليه تتطلّبَ الأمرُ بشكلٍ ما تدخّلًا دوليًا مُتَعدّد الطبقات لوَضعِ حَدٍّ للعبث وإعادة اللعبة إلى أصولها.

شنّت القوات الأميركية والبريطانية بحرًا وجوًا غاراتها ليل الخميس (والجمعة). نالت هذه الغارات وبشكلٍ موجع من مواقع وبنى تحتية عسكرية تهدف إلى “إضعاف” قدرة الميليشيا اليمنية على تهديد الملاحة المدنية الدولية في مضيق باب المندب والبحر الأحمر، وفق بيانات لندن وواشنطن. غير أن العملية العسكرية الثنائية حظيت قبل ذلك بغطاءٍ سياسي وقانوني دولي مُلتَبس.

قبل يومٍ من تلك العملية، صوّت مجلس الأمن الدولي التابع لمنظمة الأمم المتحدة على قرارٍ يُدينُ الهجمات التي برتكبها الحوثيون ضد السفن والملاحة في البحر الأحمر. قدمت الولايات المتحدة واليابان مشروع القرار وسعت روسيا، وربما لحفظ ماء الوجه، لإدخال تعديلات عليه. لكن أصحاب القرار رفضوا تلك التعديلات وأخضعوا نصّهم لتصويت الدول الـ 15 الأعضاء داخل المجلس. فاعتُمِدَ القرار (رقم 2272) بأغلبية 11 عضوًا.
كان بإمكان الصين وروسيا أن يستخدما (أو حتى يستخدم أحدهما) حقّ النقض الذي يمتلكانه لإطاحة القرار ودفنه، لكنهما لم يفعلا. مرّ القرار وأصبحَ أُمَميًا يمثّل إرادة دولية مُستَجِدّة مُجمِعة على عدم توفير أيِّ حاضنةٍ “مُتَفَهِّمة” لحجج الحوثيين وخطابهم. امتنعت روسيا والصين عن التصويت بقصد تمرير القرار وجعله نافذًا له ما بعده، وكان ما بعده.

وحتى إذا ما استهجنت موسكو لاحقًا الضربات ضد الحوثيين، فإنَّ أيَّ مُبتدَإٍ في علوم السياسة الدولية كان يعرف أجندة الطريق التي تقف وراء دفع واشنطن بقرارها مع طوكيو إلى قاعة مجلس الأمن في نيويورك. والأرجح أنَّ روسيا والصين استنتجتا، وربما وُضِعتا في صورة، المفاعيل العسكرية الرادعة التي أوحى بها قرار مجلس الأمن المُدين للحوثيين.
في الأمرِ رسالة جديدة وقاسية لإيران. طهران تستخدم منذ حدث عملية “طوفان الأقصى” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي في قطاع غزّة، رواية تفيد أنَّ فصائل “محور المقاومة” في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين كما اليمن تعمل بشكلٍ مستقل وتأخذ قرارها من دون الرجوع إلى القيادة في إيران. غير أنَّ أحدَ أذرع إيران في المنطقة، والمُطلّ على البحر الأحمر وما يُمثّله من أهميةٍ استراتيجية دولية ولإيران نفسها، تلقّى ضرباتٍ قاسية صادرة عن مزاجٍ دولي عام مُعادٍ للفوضى التي أحدثها الحوثيون في مياهٍ دولية.
والحالُ فإنَّ التطوّرَ الدراماتيكي خلال الساعات القليلة الماضية لا يعودُ فقط إلى تطوّرٍ سياسي قانوني جرى في مجلس الأمن قبل ذلك. بدا من تصلّب التصريحات الصادرة من لندن خلال الأسابيعِ المُنصرمة أنَّ لسانَ بريطانيا يتحدّث باسم واشنطن، وأنَّ عزفًا ثُنائيًا يجري بين العاصمتين للتحضير للانتقال من مستوى الدفاع في البحر الأحمر إلى مستوى الردع والهجوم داخل الأراضي اليمنية.

في حديثه إلى صحيفة التلغراف في 22 كانون الأول (ديسمبر) الماضية، بدت لافتة كلمات وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون المُهَدِّدة لإيران مُنبّهًا إلى أنَّ “الأمور تغيّرت”. بعدها، في الأول من كانون الثاني (يناير) الجاري، أعلن وزير الدفاع البريطاني غرانت شابس أنَّ بريطانيا على استعدادٍ لأخذ “إجراءات مباشرة” ضد الحوثيين. بدت مواقف الوزير مُقحمة للإعلان للرأي العام البريطاني والدولي كما للحوثيين وإيران من ورائهم أن “الأمور فعلًا تغيّرت”.
والحالُ فإنَّ التسريبات التي صدرت مساء الخميس عن لندن وواشنطن بشأن “شيء ما يُعد”، وعن حركة غريبة للوزراء باتجاه مقرّ رئيس الحكومة، وعن همهمات بشأن ضرباتٍ قيد التحضير ضد الحوثيين، كانت على ما يبدو إنذارًا مُبَكِرًا يهدف إما إلى استدراج ضمانات جدّية تُقدّمها إيران والحوثيون لوقف تهديد الملاحة في مياه اليمن، وإما إلى إعطاءِ وقتٍ للمُستهدَفين في اليمن إلى الشروع بعمليات إخلاء عاجلة تُخفّفُ من الخسائر البشرية، وخصوصًا المدنية. حتى أنَّ صحافيين عرب في واشنطن أُبلغوا فضائية بساعة التنفيذ لكن طُلب عدم النشر. وإذا كان الصحافيون أو بعضهم كان على دراية وعلم، فإنَّ إيران وميليشياتها كانتا على يقين.
وإذا ما كان ردّ الحوثيين مُحتَمَلًا، والأرجح أنه سيكون حتميًا لحفظ ماء الوجه على الأقل لدى جمهورهم وجمهور “محور المقاومة”، فإنَّ إيران التي أثبتت أنها غير مَعنيّة كدولة في التدخل للدفاع عن “حماس” والغزّيين في القطاع، هي أيضًا غير مَعنية بالتدخّل لصالحِ أيِّ ذراعٍ من أذرعتها في المنطقة. والمُعادلة بسيطة: الأذرع صُنِعت وطُوِّرت وعُظِّمَ شأنها للدفاع عن إيران كيانًا ونظامًا ومصالح وأجندات. بالمقابل ليس من وظيفة الجمهورية الإسلامية ومهامها الدفاع عن تلك الأذرع وحمايتها.

ستكونُ مُخاطرة استباق حراك الميدان الساخن للخروج باستشرافٍ موضوعي بارد. غير أنَّ لغة المصالح وحسابات الحوثيين في اليمن تُحتّمُ على “الجماعة” تجنّب الذهاب بعيدًا في صدامٍ مع قوى عسكرية دولية كبرى. والقراءة العقلانية تفرضُ استيعاب أن لا مصلحة لها وإيران من ورائها بمواجهة إرادة دولية واسعة كشفها إعراضُ حليفَي طهران، الصين وروسيا، عن نزع شرعيةٍ أُممية محضت الضربات العسكرية ضوءًا أخضر. بدا أنَّ الضربات باتت ضرورة دولية حتى لو تدافعت مواقف البلدين كما مواقف بلدان أخرى للتحفّظ والتبرّم والتحذير والدعوة إلى ضبط الأمور والعودة إلى الديبلوماسية.
لا تحب إيران ما حدث ضد الحوثيين. يُنعِشُ الأمرُ ذاكرةً مؤلمة حين قامت الولايات المتحدة في الثمانينيات الفائتة وفي عزّ الحرب الإيرانية-العراقية بتوجيه ضرباتٍ نارية موجعة في 18 نيسان (أبريل) 1988 دمّرت، حسب مصادر أميركية، “نصف الأسطول العملياتي” لإيران. تهوى طهران وتُبدِعُ باللعب على حافة الهاوية مُوحِيةً بعظائم الأمور. وتكرهُ جدًا الهاوية نفسها حيث تخسرُ توازن الرعب العتيد وحرفة المناورة الرشيقة.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى