اللعبة الكبرى للتصنيف الإئتماني

في 26 كانون الثاني (يناير) الفائت، خفّضت وكالة “ستاندرد أند بورز” الدولية، تصنيف روسيا الإئتماني درجة واحدة لتصبح “بي بي+”، وهي من فئة “غير إستثماري” مع نظرة مستقبلية سلبية. وعلى الفور إتهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس حكومته ديمتري ميدفيديف الوكالة بأن قرارها سياسي ولا يمت إلى الوضع الإقتصادي الحقيقي في البلاد.
والواقع أنها ليست هي المرة الأولى التي تتهم فيها إحدى الدول وكالات التصنيف الدولية بقرارات سياسية أو غير صحيحة، الأمر الذي يقود إلى السؤال التالي: ما هي الأسس التي تبني عليها وكالات التصنيف للحكم على بلد بأنه جدير بالإئتمان أم لا؟ وإلى أي حد تجسّد الواقع الإقتصادي للبلد الذي ينال تصنيفها؟

وزير الخزانة الأميركي السابق تيموثي غيثنر: حذر "ستاندرد أند بورز" ولم ينجح
وزير الخزانة الأميركي السابق تيموثي غيثنر: حذر “ستاندرد أند بورز” ولم ينجح

لندن – محمد سليم

بالنسبة إلى البلدان التي تعاني ضائقة مالية في هذه الأيام فإن الإئتمان هو ملك. والتصنيفات الإئتمانية السيادية، أو التقييمات المستقلّة للمخاطر بالنسبة إلى إمكانية تخلّف الدولة عن السداد، غالباً ما تكون مفيدة للوصول إليه والحصول عليه.
إن المزايا المحتملة للتصنيف القوي معروفة على نطاق واسع: القدرة على إقتراض المزيد من المال بأفضل الشروط. أما سلبيات الضعيف منه فهي إئتمان أقل وتكاليف مرتفعة. ومع ذلك، فإن الطريق إلى التصنيف الأعلى هو أقل وضوحاً. وقد قضى بعض الإقتصاديين وخبراء السياسة عقوداً يحاولون فهم كيف يمكن للحكومات تأمين وضمان تصنيفاتٍ إئتمانية سيادية أفضل، وبصورة رئيسية من خلال تركيزهم على عدد قليل من المؤشرات الإقتصادية، مثل الناتج المحلي الإجمالي للبلد بالنسبة إلى الفرد الواحد، ونمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي، وتاريخ االتخلف عن السداد، وما شابه ذلك. هذه المؤشرات، مع ذلك، هي أدلّة غير مكتملة ولا تكفي وحدها. إن الوكالات “الثلاث الكبرى” لتقييم التصنيف الإئتماني – “فيتش”، و”ستاندرد آند بورز”، و”موديز لخدمات المستثمرين” — تعتمد على أكثر من العوامل الكمية، وهذا هو السبب بأن إستنتاجاتها حول الأرقام ذاتها تختلف في بعض الأحيان.
في الواقع، هذه الحقيقة، جنباً إلى جنب مع بعض الخفض الضار أخيراً، أدّى ببعض الخبراء، مثل دانيال فيرنازا وجوناثان بورتس، إلى الإستنتاج بأن عملية التصنيف هي ذاتية جداً أو مدروسة بشكل سيّىء، وبأن القادة السياسيين يجب أن يلغوا وكالات التصنيف الإئتماني كنتيجة أو لا يعيروها أهمية. لكن بإعتماد هذا النهج فقد تكون هناك مخاطرة من فقدان فرصة ثمينة. الذاتية، بعد كل شيء، هي طريق ذو إتجاهين، لأنها لا يمكنها أن تعمل لصالح البلد وكذلك ضد مصالحه. إن الحكومات التي تفهم كيف تُصنَع التصنيفات يمكنها أن تتخذ خطوات للبقاء أو تحسين وضعها؛ تلك التي لا تفعل أي شيء قد تكون في نهاية المطاف أكثر عرضة للخطر. ومع ظهور وكالات تصنيف جديدة الآن جنباً إلى جنب مع الحرس القديم، فإن معرفة قواعد اللعبة تبدو أكثر أهمية من أي وقت مضى.

تصنيف صحيح أم لا؟

كثيراً ما يشير نقاد وكالات التصنيف إلى قرار “ستاندرد أند بورز” بخفض التصنيف الإئتماني للولايات المتحدة من AAA (أعلى مستوى له) إلى AA + (ثاني أعلى مستوى له) في العام 2011. “من الصعب التفكير في أي شخص أقل تأهيلاً للحكم على وضع أميركا من وكالات التصنيف”، قال الخبير الإقتصادي بول كروغمان في صحيفة “نيويورك تايمز” بعد إعلان الخفض. إن الوكالة، حسب قوله: “تختلق الأشياء من عندها”.
هذه الخطوة جاءت في الواقع بمثابة مفاجأة: أكبر وكالة تصنيف إئتماني في العالم، كانت تؤكد على أن أقوى دولة على وجه الأرض، لأول مرة منذ 70 عاماً، لم تعد مقترضاً خالياً من المخاطر. مع ذلك، لم تحذُ “فيتش” و”موديز” حذوها. ذلك أنه حيث رأت “ستاندرد أند بورز” “إرتفاع عبء الدين العام” و “مزيداً من عدم اليقين في السياسات،” لم ترَ نظيرتاها على ما يبدو أي سبب للقلق. وقد كانا على حق. على مدى أرباع سنوية عدة متتالية، فإن العائد على سندات الخزينة الأميركية – أي الفائدة المدفوعة على السندات– ظل مستقراً وإنخفض ليصل إلى أدنى مستوياته التاريخية.
وهذه الحالة لم تكن فريدة من نوعها حتى بين الدول التي حافظت تقليدياً على التصنيف الأعلى. لقد إنقسمت أكبر الوكالات أخيراً حول الجدارة الإئتمانية للنمسا، وفنلندا، ونيوزيلندا، والمملكة المتحدة. الأحكام النوعية الناتجة سواء من عدم اليقين السياسي أو من الإستعداد الواضح للبلد للدفع، غالباً ما تساعد في تفسير هذه الإختلافات. ويمكنها أيضاً أن تقسّم المديرين التنفيذيين والمحلّلين في الوكالات أنفسها خلال إجتماعات لجان التصنيف السرية الخاصة. وكما أفاد دايفيد ليفي، المدير العام السابق لوكالة “موديز”: “تخيّل مجموعة كبيرة من الناس تجادل بشدة مع بعضها البعض. يمكن أن يحصل ذلك في بعض الأحيان. كانت هذه الإجتماعات مثيرة للغاية، وغالباً ما كانت هناك خلافات كبيرة. في كل حالة، تم إتخاذ القرار النهائي بغالبية الأصوات”.
مع معرفتهم بذلك، غالباً ما يعمل كبار المسؤولين الحكوميين بقوة لمنع الخفض في التصنيف. وأفاد بعض المعلومات بأن وزير الخزانة الأميركي تيموثي غيثنر، على سبيل المثال، قد سعى إلى إقناع “ستاندرد أند بورز” بأن واشنطن كانت مقترضاً بتصنيف “AAA” بعد معركة سياسية شرسة في الكونغرس بشأن حدود الإقتراض القانونية في العام 2011. وقد ظهر غيثنر على شاشة التلفزيون للتأكيد على ثقته بالإقتصاد الأميركي قبل أشهر من خفض التصنيف. ويُزعم بأن وزير الخزانة أيضاً قد حذّر “ستاندرد أند بورز” بأنها قد إرتكبت خطأ في تحليلها بعد تخفيض التصنيف الإئتماني. لكن نداءات غيثنر لم تنجح ولم تؤدِّ إلى نتيجة.
وقد فشلت هذه الجهود في جزء كبير لأنها لم تستفد من أكبر ميزة تتمتع بها الحكومة، والتي تقع عادة في المستويات الدنيا: في سيطرتها على تدفق المعلومات. في نهاية اليوم، فإن وكالات التصنيف تعتمد بشكل كبير على الدول التي تقيِّمها للحصول على بيانات خام. إنّ ما تختار الحكومات إعطاءه من معلومات –كذلك الكيفية في تقديمها- يمكن أن يحدث فرقاً حاسماً.

تدبير البيانات

قد يبدو الأمر غريباً، كانت وكالات التصنيف دائماً تعتمد بشكل كبير على معلومات مفتوحة المصدر وعلى ما كانت تمليها عليها الحكومات من بيانات. لنأخذ المملكة المتحدة، على سبيل المثال. في العام 1976، كانت الحكومة البريطانية في ورطة إقتصادية كافية دفعتها إلى طلب مساعدة مالية من صندوق النقد الدولي، وفي العام 1978، قرّرت إصدار سندات في نيويورك. في وقت سابق قبل هذه القضية، كما تُبيِّن السجلات، قررت لندن فتح مفاوضات مع وكالات التصنيف، التي لم تُقيِّم الجدارة الإئتمانية البريطانية منذ عقود عدة. وعلى الرغم من أن المملكة المتحدة لم تكن في حاجة إلى تصنيف للوصول إلى السوق الأميركية، إعتقد المسؤولون البريطانيون أن تأييداً قوياً من هذه الوكالات من شأنه أن يبني ثقة المستثمرين، ويمكّنها من خفض كبير لتكلفة الإقتراض.
منذ البداية، كانت لندن مصمّمة وعازمة على فرض رقابة صارمة على تدفق المعلومات إلى وكالات التصنيف الإئتماني. تحقيقاً لهذه الغاية، أنتج بنك إنكلترا (البنك المركزي) ووزارة الخزانة البريطانية، بالتعاون مع مع بنك الإستثمار الأميركي “مورغان ستانلي”، وثيقة توفّر نظرياً للوكالات إجراء مسح شامل واسع النطاق للإقتصاد الوطني. على الرغم من أنهم إستخدموا بيانات دقيقة، فإن المسؤولين أكّدوا على نقاط القوة في المملكة المتحدة، مشدّدين على إلتزام الحكومة بنمو الإيرادات، والحدّ من التضخم، والإستفادة من إحتياطات النفط المُكتّشفة حديثاً في بحر الشمال. كما قلّلوا من الشكوك بشأن الإقتصاد. وبالنسبة إلى التوترات مع النقابات — التي توِّجت في نهاية المطاف في ما يسمى شتاء الغضب– فقد تطرقوا إليها قليلاً، كما فعلوا بالنسبة إلى بعض الإلتزامات، مثل التفاصيل المحيطة بتخلف الحكومة عن سداد الديون التي تكبّدتها خلال الحرب العالمية الأولى والمستحقّة للولايات المتحدة.
وبحلول نهاية هذه العملية، إعتقد المسؤولون البريطانيون أنهم قدّموا معظم المعلومات المستخدمة من قبل الوكالات. وكما تُظهر وثائق نشرتها حديثاً الحكومة البريطانية، فقد بذل المسؤولون جهوداً متضافرة لتوفير تفاصيل ” قصة جيدة” كما إستطاعوا – للحدّ من إشارات إلى الدين من دون المخاطرة بحدوث إجراءات قانونية من الوكالات بشأن “قمع وعدم توفير المعلومات الجوهرية”.
من ناحية أخرى، عملت الحكومة البريطانية أيضاً لإدارة الإنطباعات من خلال سلسلة من زيارات لمسؤولين ومحللين من وكالات التصنيف، حيث قدّم خلالها المسؤولون الحكوميون عروضاً وعقدوا إجتماعات فردية. وكما تفيد إحدى الوثائق الداخلية بأن “إنطباع الثقة والكفاءة المهنية والإلتزام الشخصي. . . لا يمكن إلّا أن يكون لها تأثير كبير. . . إن هدف [وكالة التصنيف] في هذه الإجتماعات هو تحديد ما ينبغي أن تعرف”. من جهتهم، إعتقد المسؤولون البريطانيون بأن مثل هذه الجهود ستكون حاسمة؛ التقرير المكتوب الذي أنتجه المحلّلون من كل وكالة تصنيف إئتماني خلال زيارتهم إلى بريطانيا كان بمثابة أساس لإجراء مناقشات خلال إجتماعات لجان التصنيف في نيويورك.
إستجابت “موديز” بسرعة مع تصنيف ” Aaa “، ولكن كان هناك بعض التأخير في تأمين قرار نهائي من “ستاندرد أند بورز”، التي سلّمت التصنيف عينه ولكنها إقترحت بأن المملكة المتحدة لم تكن “قضية مفتوحة ومغلقة” للحصول على تصنيف علوي. وإذا لم تكن لندن “قضية مفتوحة ومغلقة”، فهذا يعني بأن الجهود البريطانية لإعلام محللي التصنيف الإئتماني والتأثير فيهم خلال عملية العرض والمراجعة قد تكون قد صنعت الفارق.

طريق المستقبل

على الرغم من مرور ما يقرب من أربعة عقود على أول تصنيف إئتماني سيادي معاصر في المملكة المتحدة، فإن الوكالات تعمل بطرق مشابهة اليوم. للتأكيد، لقد أصبحت الصناعة أكثر مهنية وتعتمد على البيانات، والتبادلات بين الحكومات ومحلّلي وكالات التصنيف تحدث على أساس أكثر تواتراً. مع ذلك، ما زالت الوكالات تطلق أحكاماً ذاتية. التقارير التي صدرت في العام 2004 والتي أفادت بأن اليونان قد أخفت أو “قنّعت” مستويات العجز لتأمين قبولها في منطقة اليورو كانت بمثابة مفاجأة لجميع وكالات التصنيف الرئيسية. ولكن إجاباتها تنوعت في نهاية المطاف. “ستاندرد أند بورز” خفّضت تصنيف اليونان، ولكن وكالة “موديز” أبقت تصنيف البلاد على ما هو عليه.
لتعقيد الأمور أكثر، أنشأ بعض الدول، أو هو في عملية إنشاء، وكالات تصنيف خاصة عالمية، حيث كل واحدة منها على الأرجح تستخدم إفتراضات نوعية مختلفة حول ما يشكّل الجدارة الإئتمانية. على سبيل المثال، تستخدم كل من روسيا والصين فعلياً وكالات تصنيف خاصة بهما، ولكنهما يخططان الآن على توحيد جهودهما والعمل معاً في هذا المجال. إن المؤسسة المقترحة سوف تقوم في البداية بتقييم المشاريع الإستثمارية الروسية-الصينية، ولكن وزير المالية الروسي أنطون سيلوانوف أعرب عن أمله في أن تستطيع المؤسسة “الإرتفاع إلى مستوى حيث تجذب آراؤها دولاً أخرى”. من حهتها، تفكر مجموعة “بريكس” التي تضم البرازيل، وروسيا، والهند ،وجنوب أفريقيا والصين، أيضاً في إنشاء وكالة تصنيف خاصة بها. ويعتقد بعض المراقبين بأن وكالة التصنيف الروسية -الصينية المقترحة قد تتوسع لتشمل دول “بريكس”.
الواقع أن هذه التطورات تشير الى تحوّل محتمل بعيداً من الوكالات الثلاث الكبرى، والتي يمكن أن تجلب تغييرات كبيرة. وأعلن سيلوانوف بأن موسكو وبكين ترغبان بأن تكون وكالتهما الخاصة للتصنيف “غير سياسية”. هذه النتيجة من غير المرجح أن تحدث أو تتحقق؛ وما لم يعتمد المحللون نهجاً آلياً على أساس العوامل الكمية وحدها، فإن العناصر النوعية سوف تستمر في التأثير في عملية التصنيف. “داغونغ العالمية” (Dagong Global)، وكالة التصنيف الرائدة في الصين، تصنّف بالفعل بعض البلدان خلافاً للوكالات الثلاث الكبرى. في العام 2013، خفّضت تصنيف الولايات المتحدة إلى (A-)، أي خمس درجات تحت تصنيف “ستاندرد آند بورز” (AA +) المثير للجدل في تقييم العملات الأجنبية. في وقت سابق من هذا العام، منحت “داغونغ العالمية” روسيا تصنيف (A)، وبالتالي إعتبارها جديرة بالإئتمان أكثر من أميركا.
لا داعي أن يساور القلق المقترضين السياديين بالنسبة إلى هذه المنافسة الجديدة، ذلك بأنها ما زالت في خطواتها الأولى. إن وكالات التصنيف الثلاث الكبرى تزدهر، مع إيرادات تجاوزت مستويات ما قبل الأزمة في العام 2013. إن خفض “داغونغ” تصنيف الولايات المتحدة ليس لديه تأثير كبير في الإستثمارات الدولية. في المستقبل غير البعيد جداً، مع ذلك، فإن الدول التي تريد الإقتراض من الخارج قد تحتاج إلى التعامل مع معايير تقييم جديدة. هذا بالتأكيد يمكن أن يثير مشاكل؛ إن الأحكام الحاسمة في ما يتعلق بإستعداد البلد على السداد، على سبيل المثال، يمكن أن تصبح مثيرة للجدل وسياسية. ولكن إذا، على الأقل، كان بعض الحكومات يسعى إلى بناء مؤسسات تصنيف ذات مصداقية، قد تكون هناك أيضاً فرص جديدة – وتشكّل أكثر من سبب للحكومات لترتيب أوضاعها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى