بيروت … أنتِ خُلاصاتُ الأعمار

بقلم كابي طبراني

من المؤلم مشاهدة مقاطع فيديو للإنفجار الذي هزّ بيروت يوم الثلاثاء الفائت. فهي تُظهرُ حريقاً بدأ في ميناء المدينة، تلاه انفجارٌ وسحابة فطر ضخمة بدت وكأنها تُحيطُ بالعاصمة اللبنانية بأكملها. وما لبثت السحابة أن انقشعت في ثوانٍ، مع ارتفاع عمود دخان وردي برتقالي في مكانها.

كل شيء حول الإنفجار – من الحجم إلى الألوان – بدا غير طبيعي ومُرعباً. وقد قارن بعضهم الإنفجار بمشهد انفجار نووي، باستثناء عدد القتلى طبعاً. وقد وصل الشعور بموجات الصدمة حتى قبرص، التي تقع على بعد أكثر من 230 كيلومتراً من شاطئ لبنان.

تحطّمت النوافذ الزجاجية في جميع أنحاء المدينة، ودُمّرت المباني. وفقاً لأحدث الأرقام، قُتل أكثر من 100 شخص، وأصيب أكثر من 4 آلاف شخص، بينما فُقِدَ العشرات. ويُعتَقد أن العديد منهم محاصر تحت الأنقاض.

يُذكّر الضرر الذي لحق بالبنية التحتية بالحرب الأهلية الماضية في لبنان، على الرغم من أنه وقع بعد ظهر الثلاثاء في غضون دقائق وليس سنوات. العديد من أولئك الذين فقدوا منازلهم، والمتوقع أن يكونوا قريبين من 300,000 من سكان المدينة، لا يعرفون إلى أين يتجهون، حيث أن أصدقاءهم وجيرانهم تأثروا أيضاً من الإنفجار.

بالنسبة إلى السبب، فإن المعلومات المحدودة المُتاحة تُشير إلى الإهمال، على الأقل.

وقال رئيس الوزراء حسان دياب إن العنبر الذي وقع فيه الإنفجار يحتوي على مخزون أكثر من 2,700 طن من نترات الأمونيوم. وهذه المادة الكيميائية تُستَخدَم عادة كسماد، على الرغم من أن طبيعتها شديدة الانفجار، وقد استُعمِلَت أيضاً في هجمات إرهابية. تم استخدام طنين من نترات الأمونيوم في تفجيرات أوكلاهوما سيتي في الولايات المتحدة في العام 1985، مما أسفر عن مقتل 168 شخصاً وصدم أمّة بأكملها. في بيروت، تم تخزينها من دون احتياطات مُناسبة بالقرب من منطقة مُكتَظّة بالسكان وبجانب صوامع القمح التي تُغذي البلاد بأكملها – وهو عملٌ لا يُغتَفَر، إنه جريمة.

بعد الإنفجار، بدأ المسؤولون اللبنانيون إلقاء اللوم على بعضهم البعض. ووجه وزير الداخلية محمد فهمي المواطنين الذين يبحثون عن إجابات إلى إدارة الجمارك، في حين قال المدير العام لهذه الإدارة، بدري ضاهر، إن القضاء هو المسؤول. وقد تم فتح تحقيق في الإنفجار من المتوقع أن تُعلَن نتائجه في غضون خمسة أيام.

إن الإنفجارَ وعواقبه سيُضاعفان ويُفاقمان الأزمات القائمة في لبنان. منذ العام الماضي، تعرّضت البلاد لأزمة اقتصادية ومصرفية ذات أبعاد غير مسبوقة، ما دفع نصف اللبنانيين إلى ما دون خط الفقر. وقد دمّر الإنفجار مُعظم المرفأ الذي يستورد من خلاله لبنان غالبية سلعه الأساسية. وعلى الرغم من أن المستشفيات اللبنانية من بين أفضل المستشفيات في المنطقة، إلّا أن نقص العملات الأجنبية حال دون شراء اللوازم الأساسية. وكانت المرافق الطبية قريبة بالفعل من سعتها قبل الإنفجار، بعد ذروة في حالات “كوفيد-19”.

المساءلة صفة تزداد صعوبة في لبنان، ولكن أولئك الذين تُثبت مسؤوليتهم عن هذه المأساة يجب أن يُحاسَبوا، بغض النظر عن مدى رتبتهم العالية وعلاقاتهم. وبينما يحزن اللبنانيون على موت أحبائهم، ويحاولون فهم الكارثة التي حلّت بعاصمتهم، يجب أن يكون التركيز على جهدٍ حقيقي لإعادة البناء، ليس فقط المباني بل المؤسسات أيضاً. يجب جمع الوقائع، وتوفير الإجابات والمساءلة وتقديم أي مساعدة مُمكنة للثكالى والمصابين.

إنه أيضاً وقتٌ للكرم والتعاطف من جانب المجتمع الدولي. أقلعت طائرة مُحمَّلة بأربعين طناً من الإمدادات الإنسانية – بما في ذلك المعدات الطبية – من مدينة دبي الإنسانية الدولية بعد ساعات من الإنفجار، وأخرى من الدوحة مُحمّلة بمستشفى ميداني، وثالثة من الكويت مُحمَّلة بالمواد الطبية … ولكن هذا يجب أن يكون البداية فقط. إن دعم المؤسسات الخيرية والمنظمات غير الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني الأخرى أمرٌ بالغ الأهمية في هذه اللحظة.

لا توجد مدينة في الشرق الأوسط مثل بيروت. شهدت شواطئها الفيروزية إراقة دماء لا توصف في العقود الأخيرة، لكنها رحّبت أيضاً بالعالم بضيافتها المشهورة وأذرعها المفتوحة. لقد تعرّضت الآن لضربة مفاجئة مُفجعة. ولكن إذا كانت بيروت قادرة على شيء، فهي ستنهض، كما دائماً، مرة أخرى كطائر الفينيق.

ونحن هنا نُردّد مع الشاعر الراحل نزار قباني ما قاله لبيروت خلال الحرب الأهلية:

قومي كقصيدةِ وردٍ…

أو قومي كقصيدةِ نار

لا يوجد قبلَكِ شيء… بعدَكِ شيء… مثلَكِ شيء

أنتِ خُلاصاتُ الأعمار

  • كابي طبراني هو رئيس تحرير “أسواق العرب”. يُمكن متابعته على تويتر: @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى