بابٌ إلى جَحِيمِ الأسئِلَة

عبد الرازق أحمد الشاعر*

حينَ كنتُ في المرحلة الثانوية، ذهبتُ وأحد الأصدقاء إلى مُدَرِّسِ الرياضيات بمعضِلةٍ هندسِيّة من بنات أفكارنا الشيطانية؛ كان الرسمُ مُفَبرَكًا والمعطيات اعتباطية والمطلوبُ مُستَحيلً. بعد شرودٍ دام أكثر من دقيقتين، وعدنا المعلم أن يأتينا بحلٍّ لهذه الأحجية في اليوم التالي. وفي اليوم التالي، غابَ المعلم كما توقّعنا، وحين عاد بعد يومين لم تكن الورقة معه؛ أذكر أنه تعلّلَ بأنه قد نسيها فوق إحدى الطاولات وأنه لم يجدها حين عاد للبحث عنها، وأذكرُ أيضًا أنه لم يطل الحديث معنا حتى لا نُفاجئه بنسخةٍ منها. ترى، هل حاول الكاتب، الروائي والصحافي الفلسطيني الراحل غسّان كنفاني أن يفعل الشيءَ نفسه حين طرحَ أسئلةً بحجمِ الجبال في مسرحية “الباب” ليلقيها فوق أدمغة قرائه دفعةً واحدة فتتحوَّل إلى صداعٍ لا يهدأ وأرقٍ لا تصلح معه الإجابات المُهدّئة؟

يرتفعُ ستار “الباب” فنرى رجلًا حاد الملامح يرتدي زّي الحرب. تدخلُ أمه لتسأله عن سبب استيقاظه على غير عادته في ذلك الوقت المبكر، فيُطلِعها على نواياه المُخيفة، حيث قرّرَ أن يتحدّى إلهه وإله آبائه الأوَّلين، وأن يذهبَ بنفسه لمنازلته والقضاء عليه. ويُخبرنا كنفاني أن هذا الرجلَ العنيد هو حفيدٌ عاد، وأنه قد أمر أتباعه ببناء جنة في “إرم” فوقها غرف معبدة بالزبرجد والياقوت، الجوهر حصاها والماء الزلال يجري من تحتها تحديًا للإله، حتى يثبت له أن جنة دنياه (دنيا شديد) خير من جنة آخرته (جنة هبا)، ورغم ذلك، نراه يعترف في لحظة صدق، أنه حين اطلع على جنته من علٍ، لم يجد فيها ما يستحق عناء الخضوع وذل الطاعة. تُذكّره أمه بتحذير الكاهن الأعظم، ويحاول ولده أن يثنيه بما لديه من منطق عن الخروج، لكنه أبدًا لا يلين.

يخرج شديد كما خرج أبوه من قبل ليمارس الحماقة الأولى نفسها التي أثارت غضب “هبا”، لا لأنه يدرك في أعماقه أنه سينتصر في معركةٍ محسومة سلفًا، ولكن لأنه يؤمن أنَّ الموتَ هو التمرّد الوحيد الممكن لكائنٍ فُرِضَت عليه الحياة، ولأنَّ الحياةَ مملّة جدًا ولا خير فيها، فقد أكل شديد من متع الحياة حتى شبع وشرب من مسكراتها حتى ثمل، ولم يعد يغريه كأس ولا طاس ولا حسناء، ولا حتى جنة بربوة. الوسيلة الوحيدة إذًا لرجلٍ أُجبِرَ على ممارسة حياةٍ تافهة أن يتمرّدَ على “هبا” بأن يسعى إلى الموت بقدميه. وكما هو متوقع، خرج شديد ثائرًا في وجه الإله لكنه لم يعد، وبعد انتظارٍ لم يدم أكثر من يومين، ارتدى “مرثد” الابن ثياب أبيه، وبدأ إعدادَ خطبةٍ عصماء حول فساد والده المُلحد إرضاءً لكبير الكهنة.

وفي مشهدٍ لاحق، نرى شديد جالسًا في حالة إعياء في غرفة مُنمَّقة مُضاءة بشكلٍ متوهّج وهو لا يحمل سيفه، ونعلم في ما بعد أنه قد مات وأنَّ رفيقيه في تلك الغرفة الوثيرة كانا عاشقَين لفتاةٍ واحدة، وأنَّ أحدهما قد قُتلَ على يد صاحبه بعد اكتشاف خيانته. كما نرى الرجلين يمارسان روتينًا مُملًّا، حيث ينهمك أحدهما في حياكة ثوٍب أحمر للمرأة التي خانته ليفوز بها هنا في دار البقاء، بينما يحاول الآخر إحصاء غرز الثوب ليفوز بوصالها بدلًا من صاحبه، ونعرف أنَّ مَن شرّعَ لهما هذا السباق البليد هو “هبا” لا غيره. وهنا تثور أسئلةٌ وجودية عدة عن جدوى أن يحرم المرء هنا بأمر الإله ما سيناله هناك برضاه. ويتمنى شديد لو يلتقي وجها لوجه بهبا. وبالفعل، يحدث ما تمنى، لكن إجابات هبا التي كنا نتوقع أن تأتي لتخمد عاصفة الأسئلة التي أثارها شديد لم تأتِ ولم تكن عند مستوى توقعاتنا. وهو ما يدل على أن كنفاني لم يحسم حتى وقت كتابة المسرحية موقفه تجاه الكثير من القضايا الوجودية، حيث أتت معظم الإجابات غامضة وملغزة.

من الأسئلة التي بادر شديد بطرحها على هبا قوله: “من أين أتيت؟” ليجيبه هبا: لن تفهم الأمر، لقد حدثت القصة منذ وقت طويل. ثم يعترف شديد أنه لم يكن يريد الانتحار بقدر ما كان يريد أن ينازل الإله حتى يتيقن من وجوده. ثم ينتقل كنفاتي إلى قضية فلسفية معقدة، وهي أن الكون لا وجود له إلّا في عقل الإنسان، وأنه بمجرد موت الإنسان، تموت كل الموجودات، ولهذا، فنيت إرم بفناء شديد وليس العكس. وحين يعترض شديد على إملاءات هبا، يؤكد له أنه لا يفرض شيئًا على أحد بل يقترح فقط وهو بالضبط ما فعله مع رفيقيه في السجن. وفي النهاية يتهم شديد هبا بالعبث وأنه يتسلى بمآسي الناس. وأخيرًا، نصل إلى مأساة الباب أو البرزخ الذي يفصل عالم الأحياء عن المقبورين، وأن الموتى الذين يستطيعون العودة للحياة بكامل وعيهم وإرادتهم هم الذين يستطيعون كسر الحاجز بين الناسوت واللاهوت، حيث يمثل الميلاد بداية الإنسان، بينما يمثل الموت بداية الإله التي يجهلها الجميع. وقد أجاد كنفاني إدارة الحوار بين شديد وهبا (الأنا والآخر) والتي قد تكون مغلوطة ويشوبها الكثير من الخلط في كثير من الأحيان.

كثيرة هي الأسئلة التي يطرحها كنفاني، وقليلة وغير مقنعة في كثير من الأحيان هي الأجوبة. وكأنَّ غسان الخارج للتو من عباءة القمع إلى باحة منظمة التحرير الفلسطينية كان يتعمد ترك الفراغات بين سطور المسرحية التي خلت إلى حدٍّ مخيف من الفعل ومن الحبكة، وكأن غسان الذي كان حديث عهد بالعمل المسرحي قد أراد أن يحول أفكاره إلى صيحات غير مغلفة يقذفها الممثلون في أوجه النظارة ليشاركوه الأرق الوجودي والقلق الفلسفي الذي كان يعتريه.

  • عبد الرازق أحمد الشاعر هو أديب، كاتب وصحافي مصري. يمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني التالي: Shaer1970@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى