الذَهَبُ مُقدَّسٌ حتى اجتثاث الشياطين

بقلم البروفسور بيار الخوري*

أَذكُرُ تماماً الجَدَلَ الذي حصل حول بيع احتياطي الذهب اللبناني، والذي يُعتَبَرُ جُزءاً مُكَوِّناً من الإحتياطات الخارجية للبنان. يومها، في ثمانينات القرن الماضي، سارع المجلس النيابي الى سنّ قانونٍ، يحمل رقم 42/1986، يَمنعُ التصرّف بالذهب وبيعه بصورة مباشرة أو غير مباشرة على عكس باقي الإحتياطات من الأُصول الأجنبية القابلة للمتاجرة. كان ذلك على وقع دعوات لتسييل الذهب الى عملات أجنبية لدعم الإحتياطي المُتهالك لمصرف لبنان وقتذاك.

دَعواتٌ لبيع الذهب، الذي يملك منه لبنان نحو 286.6 طناً، أو 10,116,572 أونصة، عادت إلى الواجهة اليوم مع الأزمة الحالية لسعر صرف الليرة اللبنانية وتَهاوي احتياط العملات الإجنبية لدى المصرف المركزي.

كانت القيمة النسبية للذهب في ثمانينات القرن الفائت مُرتفعةً قياساً على الحجم المتوسط لحيازة البنك المركزي العملات الأجنبية، وعلى حجم الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية، وحجم الناتج المحلي الضئيل، وحجم ديون الدولة التي كانت بالكاد تُذكَر.

المشهدُ يختلفُ حالياً رُغم ارتفاع قيمة حيازة الذهب اللبناني مُقوَّماً بالدولار الأميركي، ولكن قيمته الى المؤشرات المذكورة أعلاه قد باتت متواضعة بشكل واضح.

تقوم علاقة الوعي العام بالحيازة الذهبية على مفهوم المعرفة المُتَخيّلة ( Perception)، وهي التي لا زالت تُحاكي زمن التغطية الذهبية للعملات قبل انهيار اتفاقية “بريتون وودز”، وخروج الولايات المتحدة من التزام معادلة الدولار بكميةٍ مُحَدَّدة من الذهب الخالص في العام 1971. إن مُعظم اللبنانيبن لا يعرفون قيمة الحيازة الذهبية لدولتهم، وكثيرون منهم لا يُتابعون أسعار الذهب، وهذه قوة المعرفة المُتَخيّلة القائمة على عزل عناصر التحليل الواقعي عن الفرضية المُتخيّلة، وبذلك تغدو الحيازة الذهبية ضمانة في عقل الشعب لبقاء عملتهم. المعرفة المُتَخَيّلة عينها مارسها اللبنانيون على قوة استقرار الإقتصاد المرتبطة بثبات سعر صرف الليرة اللبنانية بعد الحرب الأهلية، لذلك جاء وقع تعدّد أسعار صرف الليرة المُمارَس حالياً كارثياً. فكان التخلّي السريع عن الليرة مُحرِّكاً إضافياً لانهيار سعر الصرف. يحصل ذلك بسبب صدمة الثقة للمعرفة المُتَخَيّلة، والتي تؤدي إلى سلوكٍ مُعاكسٍ تماماً للسلوك المُستَنِد إلى تلك المعرفة.

إن بيع الذهب اليوم سوف يؤدي إلى صدمةٍ أعظم أثراً من تعدّد أسعار الصرف، وسوف يَكتسبُ معانٍ مُرتبطة بوجودِ الوطن لا فقط بوجود عملته تبعاً لسلوك المعرفة المُتخيّلة.

يُدركُ اللبنانيون بمعرفةٍ غير مُتخيّلة أن بلدهم يُعاني من سوء إدارة كل شيء عام يختصرونه بتعبيرَي المُحاصصة والفساد، ويخافون تبعاً لذلك من أي تصرّف بالذهب طالما ان المدخلات نفسها ستُعطيهم المخرجات نفسها.

وهذه المعرفة غير المُتخيّلة هنا تستند الى مبدأ التجربة والخطأ الذي علّمهم أن يُدركوا أنهم رُغم عجزهم عن طرد الشياطين فهم يعرفون أن الشيطانَ شيطانٌ ولو تلبّس أثواباً تُسبغُ عليه شفاعة الطائفة.

يعرفون أنهم عاجزون أمام شياطينهم ولكن يدركون، تخيّلاً أم حقاً، أن التصرّف بحيازة الذهب سوف يكون تصرّفاً بآخر ورقة تين تُغطّي عورات لبنان الكثيرة.

من نافل القول أن أي تصرّف بالحيازة الذهبية لدعم احتياطات مصرف لبنان من العملات الصعبة سيؤدي، طالما لم تتغيّر عقلية إدارة القطاع العام بشقّيه المالي والنقدي، إلى ما أدّت إليه حتى اليوم وأكثر. سوف يضيع الذهب كما ضاعت العملات قبله وضاعت معها ثروات اللبنانيبن من ودائع ورساميل وتعويضات.

يوم دخل الزير على ملك قبيلته الصغير بعد غيبته الشهيرة، سأله عن كثرة المِعاز وغياب الجِمال في القبيلة، فأجابه الملك الصغير لقد أعطيناهم لأبناء عمومتنا واخذنا المِعاز لأنها تدرّ الحليب وتُوفّر اللحم والصوف. فسأله الزير ماذا لو عادت الحرب يا ابن أخي، فبماذا تُقاتل؟ أبالمِعاز تُقاتل يا بُني؟ ومشى ليجلس عند كعب شجرة مُعَمِّرة… ومات.

ماذا لو قايضنا الذهب؟

  • البروفسور بيار الخوري هو أكاديمي وخبير إقتصادي لبناني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى