لبنان: بَينَ الهُروبِ إلى الأمام أو الوُصولِ إلى بَرِّ الأمان

الدكتور ناصيف حتّي*

دَخَلَ لبنان الشهرَ الرابع من الفراغِ الرئاسي، ولا نَدري متى تنتهي رحلةُ الفراغِ نحو المجهول عبر انتخابِ رئيسٍ للجمهورية، فيما تكثرُ القراءات التحليلية بهذا الشأن. بعضُها يَعِدُنا بانتهاءِ الفراغِ الرئاسي قريبًا، والبعضُ الآخر الأقل تفاؤلًا يُشيرُ إلى فترةٍ طويلةٍ وشبه مفتوحة في الزمان مُذَكِّرًا بفترة السنتين ونيّف التي فَصَلَت بين نهاية ولاية الرئيس ميشال سليمان وانتخاب الرئيس ميشال عون: الإنتخابُ الذي جاء نتيجةَ توافقٍ داخلي بين ابرز الخصوم، سَهّلَ “الخارجُ” الوصولَ إليه. وسبق ذلك شغورٌ لفترة أشهرٍ ستة بين انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود وانتخاب الرئيس ميشال  سليمان، الذي جاء ثمرة “اتفاق الدوحة”. وقبل ذلك، عاش لبنان أيضًا فترة فراغٍ رئاسي استمرَّ عامًا وحوالي ٤٤ يومًا بين نهاية ولاية الرئيس أمين الجميل وانتخاب الرئيس الشهيد رينيه معوض، الذي جاء ايضًا ثمرةً ل”اتفاق الطائف”. ويتساءلُ البعض: هل نحنُ بانتظارِ “دوحةٍ جديدة” تُعقَدُ هذه المرّة في بيروت؟ ويُحذّرُ البعض الآخر من أنَّ استمرارَ الأزمة والفراغ الرئاسي قد يستدعي البحث في بلورة “طائفٍ جديد” يُعيدُ النظرَ كلّيًّا في تركيبة السلطة في لبنان. ويرى البعضُ أنَّ دعوة الرئيس نبيه بري لحوارٍ بَينَ المُكَوِّنات السياسية الرئيسة للتوصّلِ إلى انتخابِ رئيسٍ للجمهورية، يُشبِهُ إلى حدٍّ كبير لقاء الدوحة الذي أسفرَ عن الاتفاق الذي أشَرنا إليه.

ومن نافل القول أنَّ هناكَ نوعًا من القَدَريّةِ السياسيّة في لبنان تبلورت واستقرّت مع الوقت عبر التجارب التي عاشها دائمًا كساحة صراعاتٍ بالوكالة بين قوى إقليمية ودولية فاعلة في لحظةٍ مُعَيَّنة. وقد ساهم في جعل لبنان ساحةً جاذبة لتلك الصراعات أمران: الأول موقعه في الجغرافيا السياسية في المنطقة، وهو موقعٌ جاذبٌ للعبة بناء النفوذ الإقليمي. والثاني هشاشةُ التركيبة المُجتمعية التي عزّزت الطائفية السياسية‘ وتَحَكُّمُ هذه الأخيرة بالسلطة بشكلٍ شبه كلّي على حساب قيام دولة المؤسسات، الأمرُ الذي زاد من قوة دور العامل الخارجي في الأولويات والصراعات في السياسة الداخلية والوطنية اللبنانية. وحسب هذه القَدَرِيّة السياسية، حينما يحصل التفاهم بين القوى الخارجية المُتواجِهة بالوكالة عبر حلفائها اللبنانيين على أرض لبنان، سواء بالسياسة أو بالسلاح، يتمُّ إقفالُ الملف النزاعي وإعادة البلد إلى الحياة الطبيعية .

ويرى كثيرون أنَّ لبنان سيبقى أسيرًا للصراعِ المُتصاعِد الغربي-الإيراني بسبب الملف النووي واتفاق ال”5 زائد 1″ الذي يحتضر، والموقف الإيراني الداعم لروسيا في الحرب الأوكرانية، وبشكل أساسي الدور الايراني في المنطقة، وكذلك بسبب عدم حصولِ تقدّمٍ فعليٍّ في المحادثات المباشرة وغير المباشرة العربية-الإيرانية: المحادثاتُ التي تهدفُ إلى تطبيعٍ تدريجي للعلاقات بين الخصوم وذلك رُغمَ دور الوساطة الناشطة التي تقوم بها أطرافٌ عربية. فالتفاهم الخارجي الذي يَسمَحُ ويُسَهِّلُ عملية الإنقاذ الوطني في لبنان ليس التوصّلُ إليه بالأمرِ السهل ولكنه قطعًا  ليس بالأمر المستحيل. فانهيارُ لبنان الكلّي، وهو على أبوابِ التحوّلِ كلّيًا إلى أن يكونَ دولةً فاشلة، وكثيرون يعتبرون أنّه صار كذلك، له تداعياتٌ مُكلفة ولو بأحجامٍ وأشكالٍ مختلفة على الأطراف المؤثّرة في لبنان لأنه يطالُ جماعات حلفائها كما يُدخِلُ البلد في المجهول.

البعضُ يرى أنَّ التفاهمَ حول لبنان يجب أن ينتظرَ حصول صفقةٍ إقليمية تعكسُ تفاهمًا حول أُمّهات القضايا في المنطقة ولبنان ليس في طليعتها، أو أنَّ هذا التفاهم بشأن لبنان قد يحصل دون غيره لتلافي سقوط البلد في الهاوية. وقد يكون التفاهم كما علّمنا تاريخ لبنان مُوَقّتًا ومُرتَبِطًا بتوازناتٍ وأولويات لحظة مُعَيَّنة ينتهي بانتهاء هذه الأولويات أو حصول تغيّرٍ في توازن اللحظة التي سهّلت الوفاق.

لكن السؤال المطروح على الصعيد اللبناني هو التالي: ألم يحن الوقت ونحنُ على حافة الهاوية بأن نُفكّرَ في إطلاقِ عمليةِ إنقاذٍ وطنية تقومُ على إطلاقِ مَسارِ إصلاحٍ شاملٍ يتناولُ مُجمَلَ جوانب الحياة الوطنية. إصلاحٌ طالَ انتظاره ونحن عشية الانهيار الكلي. بالطبع تُعارِضُ جماعاتُ الطائفية السياسية المُمسِكة بالسلطة، رُغمَ خلافاتها حول تقاسم قالب الحلوى اللبناني، الإصلاحَ الفعلي إلّا أنه لم يبقَ شيءٌ يُمكن التنافس عليه باسم حقوق الطائفة،.فالانهيارُ المُتسارِعُ سيطال مصالح الجميع ولو بأشكالٍ وأوقاتٍ مختلفة. ليس المطلوبُ إحداثَ انقلابٍ بل الاتفاق على مسارٍ تدريجي للإصلاح الفعلي الذي يتناول مختلف المجالات الوطنية من المالي إلى الاقتصادي، إلى السياسى والقانوني والاجتماعي. يجب قبل الحوار للتوافق على اختيار الرئيس، أي انتخابه سياسيًا قبل الذهاب الى المجلس النيابي وانتخابه دستوريًا، الاتفاق على برنامج عمل شامل. برنامجُ يكون على الرئيس والحكومة التي ستؤلَّف في مطلع ولايته مسؤولية إطلاق ومواكبة وإدارة هذا البرنامج الإصلاحي الشامل لوضعه موضع التنفيذ بشكل تدرّجي. برنامجٌ إنقاذي يقوم على ثُلاثيةٍ قوامُها رؤية إصلاحية شاملة، وخطة عمل، وجدول زمني للتنفيذ. فإنتاجُ سلطةٍ سياسية جديدة عبر انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة ليس بديلًا من خطة الإصلاح هذه. فالسلطة التي قد تنتجها المنظومة الحاكمة عبر اللعبة التقليدية ذاتها لن تسمحَ بالإصلاحِ بل ستدفع نحو اللجوء إلى ما يُعرَفُ بسياسة المراهم التي لم تعد تجدي نفعًا. إنَّ المطلوب، وهو ليس بالأمر السهل، العمل على الانتقال عبر مسارٍ تدرّجي من دولةٍ تقومُ على فيدِراليةٍ من الطوائف السياسية إلى بناء دولة المؤسّسات ودولة العدالة الاجتماعية التي تُعزّزُ لا بل تُحصّنُ دولة المواطنة .

لبنان اليوم على مفترق طرق، ولم تعد تجدي سياسات تنفيس الاحتقان والهروب إلى الأمام بل الحاجة،كل الحاجة، تكمن في إيصال سفينة الوطن إلى برِّ الأمان.

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى