الانتخاباتُ الرئاسية في لبنان: تاريخٌ من التدخُّلات والتوازُنات الخارجية (3)
عرفت الإنتخايات الرئاسية اللبنانية تدخُّلاتٍ عربية وأجنبية منذ استقلال لبنان في العام 1943، الأمر الذي جعلها لعبة سياسية في أيدي القوى المؤثّرة القريبة والبعيدة. في ما يلي دراسة عن هذه الإنتخابات وتاريخها وكيف كانت تجري حتى الآن تنشرها “أسواق العرب” على خمس حلقات، هنا الثالثة منها.

الدكتور سعود المولى*
نموذج اتفاق الدوحة 2008 وعهد ميشال سليمان
الحربُ التي اندلعت في صيف 2006 وملابساتها وتداعياتها زادت من الشرخ بين الكتلتين وبين اللبنانيين عمومًا ، خصوصًا أن “حزب الله” بدأ منذ ذلك الحين يفرض سيطرته على الأرض وعلى مؤسسات الدولة[1]. وأدّى الخلاف حول النظام الأساسي للمحكمة الدولية الخاصة بلبنان إلى استقالة الوزراء الشيعة من حكومة الرئيس فؤاد السنيورة في نهاية العام 2006، ثم الاعتصام في وسط بيروت التجاري، وحدوث فراغ في الرئاسة الأولى، وإقفال المجلس النيابي لسنة ونصف السنة، أدّت كلها إلى تفاقم النزاع السنّي-الشيعي الذي تخللته اشتباكات في الشوارع في مطلع العام 2007 (أحداث ضبية وجامعة بيروت العربية). وتُوّجَ ذلك بمعارك مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين في صيف 2007، وبأحداث 7 أيار (مايو) 2008. ومنذ اتفاق الدوحة في 21 أيار (مايو) 2008[2] الذي تلى “اجتياح بيروت” من قبل “حزب الله”، تغيّرت موازين القوى في لبنان من جديد. صحيح أنَّ قوى 14 آذار ظلت تحكمُ كأكثرية نيابية، لكنها اضطرّت إلى إعطاء خصومها في 8 آذار “الثلث الضامن”، الذي أسمته قوى 14 آذار “الثلث المعطّل”، وهو عَطّلَ بالفعل حراك الحكومة ومؤسّساتها[3]. ولم تتكلل مساعي السعودية وفرنسا لرأب الصدع بين القوى اللبنانية بأيِّ نجاح.
وبنتيجة أحداث أيار (مايو) 2008، فَقَدَ المحور الأميركي–الفرنسي–السعودي (والمصري ضمنًا) في لبنان والمنطقة فعاليّتَه، وأخذ التعاملُ مع دمشق، باعتبارها مفتاح الحلّ والربط في لبنان، يتمُّ –على الأقل في العلن– بواقعيةٍ جديدة من قِبل السعودية وفرنسا، حتى أنَّ وفودًا أميركية بدأت تزور دمشق منذ تولي الرئيس باراك أوباما الحكم في العام 2009[4]. كذلك، أخذ وليد جنبلاط ينسحب تدريجًا من ““قوى 14 آذار”، طارحًا وسطيةً بين القوتين المتنافستين. وفي هذا السياق، حصلت المصالحة السعودية–السورية في مطلع العام 2009، وتُوِّجت بديبلوماسية “السين سين” (السعودية-سورية) لتبريد الأزمة اللبنانية ولرأب الصدع بين “تيار المستقبل” والنظام السوري، وبين “المستقبل” و”حزب الله”، حول المحكمة الدولية وصدور القرار الظني[5]. وقام سعد الحريري ووليد جنبلاط بزيارات إلى دمشق ولقاءات مع الرئيس بشار الأسد[6].
بنتيجة اتفاق الدوحة، انتُخب ميشال سليمان رئيسًا للجمهورية وعُقدت جلسات حوار استمرّت حتى نهاية ولايته. وأول جلسة حوار برعايته كانت في بعبدا في أيلول (سبتمبر) 2008 بحضور الأمين العام لجامعة الدول العربية آنذاك عمرو موسى. خلال هذه الجلسات، وقع التوافق على ملفي النفط والعلاقة مع سوريا، كما كُلِّفت لجنة عسكرية بدراسة الاستراتيجية الدفاعية، وتمَّ التوافق على مواكبة الانتخابات النيابية والبلدية في العامين 2009 و2010 في أجواء من الشفافية والهدوء، وتجنيب لبنان تداعيات العدوان الإسرائيلي على غزة في العام 2009[7].
في 27 حزيران (يونيو) 2009، كلّف الرئيس اللبناني ميشال سليمان سعد الحريري تشكيل الحكومة الجديدة التي تلت الانتخابات، وذلك بعد الاستشارات النيابية وتسميته من قبل 86 نائبًا. وفي 7 أيلول (سبتمبر) من العام نفسه، وبعد شهرين ونصف الشهر من تكليفه بتشكيل الحكومة، قدم إلى رئيس الجمهورية ميشال سليمان تصوّرًا لتشكيل الحكومة، إلّا أنَّ المعارضة رفضت تلك التشكيلة. وفي 10 من الشهر نفسه، أعلن بعد لقائه رئيس الجمهورية اعتذاره عن تشكيل الحكومة، إلّا أنه في 16 من الشهر نفسه أعاد الرئيس تكليفه لتشكيل الحكومة بعد أن أعاد أكثرية نواب مجلس النواب تسميته لرئاسة الحكومة بالاستشارات النيابية، وبعد حوارات ومناقشات ومفاوضات شاقة استطاع أن يعلن عن تشكيل حكومته الأولى بتاريخ 9 تشرين الثاني (نوفمبر) 2009[8].
واجهت حكومته صعوبات عديدة خصوصًا بعدما بدأ يقترب صدور القرار الظني بجريمة اغتيال رفيق الحريري، وإصرار وزراء “حزب الله” و”حركة أمل”، و”التيار الوطني الحر” (بزعامة ميشال عون) على تعطيل هذا القرار. وأدى كل ذلك إلى إعلان وزراء هذا التحالف في 12 كانون الثاني (يناير) 2011، استقالتهم من الحكومة وذلك بعد وصول محاولات تسوية مشكلة المحكمة الدولية إلى طريق مسدود. وقال وزير الطاقة جبران باسيل الذي تلا بيان الاستقالة أمام الصحافيين ، إن الاستقالة جاءت نتيجة “التعطيل” الذي أصاب الجهود الرامية الى “تخطي الازمة الناتجة عن عمل المحكمة الدولية”، مُتّهمًا “الفريق الآخر بالرضوخ للضغوط الخارجية لا سيما الأميركية”[9]. سبق ذلك إعلان المعارضة أنها تبلّغت بنهاية المبادرة السورية-السعودية دون التوصل الى نتيجة بشأن تسويةٍ للخلاف الدائر حول عمل المحكمة الدولية[10]. وكان رئيس الحكومة سعد الحريري يعقد اجتماعًا في البيت الابيض بواشنطن مع الرئيس الأميركي باراك أوباما ساعة الإعلان عن استقالة الوزراء. كما أدت الاستقالة إلى فقدان الحكومة (30 وزيرًا) لنصابها الدستوري (أي ثلث +واحد) وبالتالي اعتبارها مستقيلة. وبعد سقوط الحكومة، غادر الحريري لبنان في العام 2011 ليعيش متنقلًا بين فرنسا والسعودية، حتى عودته إلى البلاد في آب (أغسطس) 2014.
إعلان بعبدا والحرب السورية
في 11 تموز (يوليو) 2012، أي بعد عام على اندلاع الثورة السورية، تكلَّلَت جلسات الحوار بإعلان بعبدا الذي هدف بشكلٍ أساس إلى تحييد لبنان عن التداعيات السلبية للأزمات الإقليمية، “ما عدا ما يتعلق بواجب التزام قرارات الشرعية الدولية والإجماع العربي والقضية الفلسطينية المحقة، بما في ذلك حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى أرضهم وديارهم وعدم توطينهم”. ومنذ العام 2012 بات التأكيد على الالتزام بإعلان بعبدا عرفًا عند تشكيل الحكومات، علمًا بأنَّ نسخةً منه سُلِّمت إلى جامعة الدول العربية ومنظمة الأمم المتحدة[11].
لم تنجح جلسات الحوار الوطني في حلِّ جميع الملفات العالقة بشكل جذري، بل تفاقم بعضها مع مرور الوقت، مثل سلاح “حزب الله”، لا سيما بعد مشاركته في الحرب السورية في العام 2013، أي بعد سنة من إعلان بعبدا. وفي جلسة الحوار الأخيرة، لم يتم البحث في الاستراتيجية الدفاعية، ولا في إعلان بعبدا، فانتهت ولاية ميشال سليمان من دون انتخاب خلف له، وعاش لبنان فراغًا رئاسيًّا دام هذه المرة 888 يومًا[12]. وفي مسعى إلى وضع حدٍّ للتوترات التي كانت تتفاقم، دعا بري مجددًا إلى حوار بين “حزب الله” و”تيار المستقبل” في عين التينة، فعُقِدت جلسات عدة توافق فيها الطرفان على عدم التصعيد. إلَّا أنَّ أزمة الفراغ الرئاسي لم تُحل إلَّا بانتخاب ميشال عون رئيسًا بموجب اتفاقٍ بين “التيار الوطني الحر” و”القوات اللبنانية” و”تيار المستقبل” في ما بات يُعرف بالتسوية الرئاسية.
حكومة تستبق الفراغ الرئاسي 2013- 2014
في 6 نيسان (أبريل) 2013 أعلن الرئيس اللبناني ميشال سليمان تكليفه تمام سلام لرئاسة الحكومة اللبنانية الجديدة بعد أن حصل، في الاستشارات النيابية الملزمة، على 124 صوتًا من أصل 128 يشكلون أعضاء مجلس النواب اللبناني. وبعد عشرة أشهر وعشرة أيام على تكليف تمام سلام وُلدت حكومة “المصلحة الوطنية” وضمّت 24 وزيرًا يمثلون كل الفئات اللبنانية في تحالفي 8 آذار و14 آذار (باستثناء “القوات اللبنانية”)، والكتلة الوسطية (المتمثّلة بالرئيسين ميشال سليمان وتمام سلام والنائب وليد جنبلاط)، وذلك وفق معادلة الثلاث ثمانيات (8-8-8) التي لا تعطي لأي فريق امكانية الفيتو أو “الثلث المعطِّل”[13].
وجاء الاتفاق على هذه الحكومة الجامعة ليعكس تبدلًا في ميزان القوى ومعادلات الصراع في المنطقة. وكان قادة 14 آذار قد اعتبروا أن الحكومة الجديدة تُعيد بالنسبة إليهم التوازن إلى الحياة السياسية وتعيد الثقة ولو في الحد الأدنى بالبلد، فضلًا عن أنّها تساهم في تخفيف التوتر والاحتقان السني-الشيعي في البلاد، وتخفف من منسوب التحريض السياسي والاعلامي الذي تفاقم على وقع الحدث السوري.[14].
الحكومة التي ولدت يوم 15 فبراير/ شباط 2014 “أنقذت البلاد من تداعيات خطرة متوقعة فيما لو جرى تأليف حكومة أمر واقع”… كما إنّه كان يعوّل على هذه الحكومة الجديدة في “استعادة الخدمات للناس ورعاية مصالحهم وشؤونهم، إذ لم يُسجّل خلال 11 شهرًا من استقالة الحكومة ووجودها في مرحلة تصريف الأعمال أي اقتراب من مصالح الناس”[15].
تشكيل الحكومة في تلك اللحظة بالذات ارتبط بالجو الاقليمي والدولي. فالمجتمع الدولي (أميركا وأوروبا تحديدًا) كان يرى أنّ وجود حكومة جديدة يؤدي إلى استقرار داخلي أو ربما يكون أحد العوامل الأساسية لهذا الاستقرار. كما إنّ وجودها يؤدي إلى تحسين المناخات التوافقية الضرورية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية قبل 25 أيار (مايو) 2014. يُضاف إلى ذلك، وبحسب أوساط ديبلوماسية غربية: أن “المساعدات الأمنية للبنان من الخارج، فضلًا عن المساعدات الإنسانية للاجئين، يحتاج استقبالها إلى حكومة فاعلة”.[16]
وقد ظهر خلال تلك الفترة حرص واشنطن (ودول غربية أخرى) على إشراك “حزب الله” في الحكومة وعلى دعم الرئيسين سليمان وسلام في مسعاهما للـ”نأي بالنفس” عن الأزمة السورية و”تحييد لبنان عن تداعيات الوضع في المنطقة” [17]. كما إنَّ الاتفاق الدولي على حصر الوضع في سوريا وعدم تسليح المعارضة منعًا لتصاعد الحرب وامتداد لهيبها الى الدول المجاورة يتطلب ضبط الوضع في لبنان ومنعه من الانزلاق هو الآخر الى الحرب الداخلية بسبب تورط “حزب الله” في سوريا.
أما على المستوى الاقليمي فإنَّ ايران عرفت تحوّلًا مع انتخاب الإصلاحي حسن روحاني للرئاسة. فقالت إيران رسميًا بأنها “لم تتدخل بعملية تشكيل الحكومة”، وبأنها “مرتاحة” إذ إنها أوكلت الموضوع اللبناني ولزّمته في هذه المرحلة الى الطرفين اللبنانيين اللذين تتمتع هي بنفوذ مباشر عليهما، أي “حزب الله” و”حركة أمل”، اللذين يُعَدّان “ذراعيها” فيه اليوم. وأعطت الديبلوماسية الإيرانية “الدليل على ذلك أنَّ وزير خارجيتها محمد جواد ظريف عندما زار بيروت كان في أجواء التشكيل وباركها”[18].
والحالُ أنَّ إيران كانت مشغولة في العمل لتوقيع اتفاق نهائي مع الغرب حول برنامجها النووي، وقد بدأت اجتماعاتها مع الغرب حول التحضيرات لذلك. وإيران تريد علاقات وطيدة بالغرب، كما تريد تحسين علاقاتها بالدول المجاورة لها، خصوصًا السعودية. وهي قامت بتطبيع علاقاتها مع تركيا، بحيث يمكن الاستنتاج بأنَّ أداء ايران في ظل عهد الرئيس حسن روحاني على مستوى السياسة الخارجية اختلف عما كان عليه الوضع سابقًا. ولكن يبقى أنَّ ايران لم تكن لتُقدّم أوراقًا مجانية بل كان منطقها أنها ستُبادل الغرب بالقدر الذي يبادلها. وهذا كان يعني استمرار الشد والجذب بينها وبين الغرب في الملف النووي، كما في غيره من الملفات الضاغطة على ايران، وما يتركه ذلك من انعكاسات على الاستقرار في لبنان.
تقاطع دولي إقليمي ينتج فراغًا
كانت الأطراف اللبنانية كافة (بما فيها “حزب الله”) تربط ساعتها على تطورات الوضع في سوريا ومفاوضات جنيف 2 مؤملة حصول حسم ميداني وسياسي ينعكس بالضرورة على لبنان. ولما لم يحصل هذا الحسم ميدانيًا، ودخل مؤتمر جنيف 2 في جولات تفاوضية لا جديد فيها، حسم اللبنانيون أمرهم بضرورة وجود حكومة تملأ الوقت وتحقق مكاسب للجميع بعد الحد من الخسائر أصلًا. ومن المحتمل أنَّ ضغطًا إيرانيًا حصل على “حزب الله” للقبول بهذا المخرج للحكومة اللبنانية خصوصًا مع تزايد الضغط الشعبي عليه بسبب تضرر مصالح المواطنين في الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت (التفجيرات وحالة القلق والخوف)[19] وفي الدول العربية، (وبالأخص دول الخليج)[20] من مشاركة الحزب في القتال في سوريا وعزلته على المستوى العربي.
ف”حزب الله” كان بحاجة الى غطاء شرعي لوجوده في سوريا وبحاجة الى المشاركة في القرار بخصوص الاستحقاق الرئاسي، وفي التفاوض مع الغرب، وهذا لا يتأمّن له إلّا من خلال تواجده ضمن حكومة شرعية مهما كان شكلها ومضمونها.
أضف الى ذلك أن التنازلات التي قدمها الرئيس سعد الحريري، وبمباركة سعودية، من أجل تشكيل الحكومة هدفت إلى تحقيق عودة فريق الرابع عشر من آذار (وتيار المستقبل تحديدًا) الى السلطة، وبالتالي عدم إقصائه في الاستحقاقات المصيرية المقبلة[21] (وأهمها: إعداد قانون للانتخابات النيابية وانتخابات رئاسة الجمهورية) واستعادة بعض الحيوية السياسية والوجود بعد حالة الجزر التي يعيشها منذ خروجه من الحكم. كما إنَّ هذه الحكومة كانت بالنسبة إلى الحريري و14 آذار والسعودية هي الأنسب لإدارة الفراغ.
وبالتالي لم يكن يمكن لهكذا حكومة وفي ظل مثل هكذا ظروف إلّا أن تتجه نحو بيان وزاري مقتضب لا يغرق في التفاصيل والتعهّدات التي تعجز عنها حكومة لن تعمر سوى ثلاثة أشهر ومهمتها الأساسية التحضير للاستحقاق الرئاسي، وهي كانت نقطة التوافق الدولي والإقليمي والمحلي الأساسية وربما الوحيدة.
لكن الاستحقاق الرئاسي تأجل ودخلت البلاد في أزمة فراغ رئاسي رهيبة.
صفقة انتخاب ميشال عون 2016 وتداعياتها
استمر الفراغ الرئاسي لمدة سنتين ونصف بدأت من نهاية ولاية الرئيس ميشال سليمان حتى تسلم الرئيس ميشال عون الحكم في لبنان، وكان يقوم بأمور رئاسة الجمهورية الحكومة اللبنانية المؤقتة بقيادة تمام سلام (بين 25 أيار/مايو 2014 و11 شرين الثاني/نوفمبر 2016).
في احتفالٍ أُقيمَ في منزله قبل الانتخابات الرئاسية 2016، أمسك السفير البريطاني طوم فلتشر مغلّفًا أبيض، وتوجه إلى الحضور مُردّدًا سؤالًا دأب على سماعه: “من هو مرشح المجتمع الدولي للرئاسة؟” قال: ثوان، وأخرج ورقة بيضاء مجيبًا: “نحن على الحياد”.[22]
في 31 تشرين الأول (أكتوبر) 2016 أنهى الحريري مسيرة البحث عن رئيس للبنان بقبول مرشح قوى “8 آذار” ميشال عون ودعمه لذلك الترشيح. وبعدَ انتخاب عون رئيسًا للبلاد، قامَ الأخيرُ بتكليفِ الحريري رسميًا لرئاسَةِ الحكومة وذلكَ في 11 تشرين الثاني (نوفمبر) 2016، ونال الحريري 110 صوتًا من نواب البرلمان البالغ عددهم 126 بعد استقالة أحدِ النواب، وشكّل حكومته الثانية بعد 40 يومًا من التكليف.
أسباب اختيار الحريري “التضحية” وترشيحه فرنجية ثم عون لرئاسة الجمهورية
من متابعة تقلّبات موقف الحريري يمكن القول بأنَّ الرجل استشعر الخطر على وضعه السياسي وعلى موقع الطائفة السنّية في لبنان نتيجة تطورات دولية وإقليمية لا يمكن تجاهلها.
1. فقد برز خلال الشهور التي سبقت خياره أنَّ التحالف الدولي ضد “داعش” (بقيادة أميركا) يسير في اتجاه غير مواتٍ لرياح المعارضة السورية، خصوصًا منذ الدخول الروسي بقوة في عمليات عسكرية وحشية تدميرية في حلب. وبدا أيضًا أنَّ الموقف الأميركي (والموقف الأوروبي أيضًا) هو موقف غير حاسم في دعم السوريين، لا بل أنه موقف متساهل مع ضربات النظام السوري وحليفه الروسي والإيراني وذلك تحت عنوان “ضرورة التخلّص من “داعش”” و”أولوية الحرب على الإرهاب”.
2. في الوقت نفسه استمر تخبط التحالف العربي (والدور السعودي) في اليمن وعجزه عن إحراز أي تقدم في حربه ضد الحوثيين المدعومين من إيران بقوة. وقد بدا أنَّ المستنقع اليمني يُغرقُ السعودية ويُربكها ويجعلها تضعه في أول أولوياتها.
3. أضف إلى هذه العوامل الخارجية التي لها انعكاس مباشر وقوي على التوازن اللبناني ومعادلاته، وعلى موقع الرئيس سعد الحريري وتحالفاته، عودة أطروحة الدعم الدولي للأقليات في الشرق الأوسط، وتصاعد شهية الموارنة (وبعض قياداتهم راهنت منذ القديم على ما سمي حلف الأقليات في المنطقة) للاستفادة من هذا الوضع الدولي كما استفاد ويستفيد الأكراد والأيزيديون والأرمن وغيرهم. إنَّ قرار أميركا الاعتماد على القوة الكردية في العديد من المواقع الحربية، والاحتضان الأوروبي الذي تحظى به الأقليات غير العربية أو السنية، دفع بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى اتخاذ قرارات سارت في عكس الاتجاهات السابقة للسياسة التركية. فهو استعاد العلاقات الحميمة مع روسيا، كما إنه استعاد حرارة العلاقة مع إيران في مقابل زيادة حدة التشدد مع الأكراد.
4. هذه التطوّرات هي التي تفسّر ترشيح سمير جعجع لميشال عون تحت عنوان “استعادة القوة المسيحية ودور المسيحيين وموقعهم في النظام اللبناني”. فالمسيحيون اللبنانيون شعروا بتغيّر الوضع الدولي حيال الثورة السورية وضعف الوضع العربي والخليجي أمام القوة الإيرانية خصوصًا بعد صفقة الملف النووي مع إيران. والمسيحيون عادوا يحلمون بإمكانية تحقيق مكتسبات في لبنان، عبر وحدتهم أولًا، ولو كلف ذلك تخلي بعضهم عن الحلفاء السنّة (الحريري). وفي هذا السياق نقرأ انتقال عدد من النواب المسيحيين من “تيار المستقبل” (من الدائرة الأولى في بيروت: الأرمن وميشال فرعون) إلى دعم ترشيح عون وذلك قبل وقت من موافقة سعد الحريري على ذلك. كما نقرأ معنى معارضة عدد من الرموز السنّية الحريرية لسياسته الجديدة (فؤاد السنيورة وأحمد فتفت بالخصوص، وتلاهما وبشكل أعنف اللواء أشرف ريفي).
5. بالإضافة إلى الانكفاء السعودي ينبغي ملاحظة تأثير الوضع المصري المتدهور بسبب سياسات الرئيس عبد الفتاح السيسي، حليف السعودية والحريري، خصوصًا على قطاع كبير من “تيار المستقبل” ووزرائه ممن تربطهم علاقات قوية بالنظام المصري، الأمر الذي زاد من إرباك وضعف الحريري.
باختصار يمكن القول إنَّ الحريري اعتبر أن ثمة عجزًا سعوديًا عن رسم سياسة واضحة في المنطقة وتنفيذها مقابل هجوم إيراني منسق وممنهج يحقق انتصارات متتالية في سوريا والعراق واليمن ولبنان. يضاف إلى هذا العجز والإرباك ما كان يدور من أحاديث عن أزمة سعودية داخلية ما بين عجزٍ مالي، وإجراءات حكومية تقشّفية، وصراعات داخل العائلة المالكة، خصوصًا بين ولي العهد الأمير محمد بن نايف وولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، ما حدَّ من التأثير السعودي في المنطقة وأضعف من نفوذ المملكة. أدى ذلك إلى تخبط الحريري و”تيار المستقبل” وعجزهم عن التعامل مع الملفات السنية الحامية مثل ملف الشيخ أحمد الأسير وملف معتقلي سجن رومية ومن ثم ملف اللواء أشرف ريفي، ناهيك عن ملفات الحكومة التي يشارك فيها “تيار المستقبل” والتي وقفت عاجزة عن التعامل مع موضوع النفايات كما غيره من المواضيع الحساسة.
ثم إنَّ سعد الحريري كان يحتاج للعودة إلى الحكم لترتيب أوضاعه مستفيدًا من إرث والده ومن مواقفه الجامعة والمتعاونة مع جميع القوى السياسية بما فيها خصومه الرئيسيين حلفاء سوريا وإيران. في انتخابات البلديات صيف 2016 حارب الحريري للإمساك بالمدن السنية الرئيسة (بيروت وصيدا وطرابلس) لأنه يريد استرضاء البورجوازية السنية المدينية التي بدأت تتصاعد صرختها خصوصًا في بيروت جراء التعطيل السياسي والدستوري، والانهيار الاقتصادي. تحالف قادة الحريرية في مدينة صيدا (فؤاد السنيورة وبهية الحريري) مع الفلسطينيين ما سمح أن تكون النتائج لصالح “تيار المستقبل”. أما في بيروت فقد نجحت لائحة الحريري بأغلبية ضئيلة للغاية وكشفت الانتخابات عن استنكاف البيروتيين عن المشاركة وعن سخط مسيحي كبير على الحريري عبّر عن نفسه في انتخاب اللائحة المنافسة التي حشدت أيضًا كل قوى المجتمع المدني والطبقة الوسطى في العاصمة. في طرابلس كان الوضع مختلفًا بسبب تاريخ الاضطهاد السوري والمخابراتي اللبناني للمدينة وأهلها فكان فوز لائحة أشرف ريفي على لائحة الحريري.
وإلى اللقاء في الحلقة الرابعة.
- الدكتور سعود المولى هو باحث وكاتب ومترجم وأستاذ جامعي متقاعد، وهو زميل أول زائر في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية في قطر.
هوامش:
[1] عبد الرؤوف سنّو، “الحرب الإسرائيلية – اللبنانية 2006: الخلفيات والمواقف والأبعاد”. مجلة حوار العرب، 22 (2006)، ص 30-44.
[2] اتفاق الدوحة هو الاتفاق الذي توصلت اليه القوى اللبنانية يوم الأربعاء 21 مايو/أيار 2008 في الدوحة بقطر. وهو وضع نهاية لـ 18 شهرًا من الأزمة السياسية في لبنان شهدت بعض الفترات منها أحداثًا دامية مثل احتلال حزب الله لبيروت يومي 7 و8 مايو/أيار. رعى الاتفاق أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني وبجهود اللجنة الوزارية العربية والأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى. وقد أدى الاتفاق إلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية ( قائد الجيش ميشال سليمان)، وعلى اجراء الانتخابات البرلمانية بحسب قانون العام 1960 الذي يجعل القضاء دائرة انتخابية واحدة وتقسيم العاصمة بيروت إلى ثلاث دوائر. كما أدى الاتفاق إلى تأليف حكومة وحدة وطنية برئاسة سعد الحريري.
[3] يُنظر حول الاتفاق: اتفاق الدوحة. بناء ثقافة المواثيق في لبنان من أجل مواطنية فاعلة، المؤسسة اللبنانية للسلم الأهلي، بيروت 2009.
[4] U.S. Department of State, Country Profiles ‘Syria’, Bureau of Near Eastern Affairs, 18 March 2011. <www.state.gov/r/pa/ei/bgn/3580.htm> accessed 2 May 2012.
[5] عبد الرؤوف سنو، التعايش المأزوم، مرجع سبق ذكره.
[6] بعد هجمات واتهامات حادة بالمسؤلية عن الاغتيالات التي حصلت في لبنان، وبعد وساطة سعودية وفرنسية، زار الرئيس سعد الحريري دمشق أول مرة في 19 ديسمبر/كانون الأول 2009 وزارها بعد ذلك 3 مرات كانت الرابعة الأخيرة في 18/7/2010. وزارها وليد جنبلاط في 31 آذار/مارس 2010 وتكررت زياراته مرات عدة حتى آب/أغسطس 2011 حيث قطعها مع تصاعد الثورة السورية.
[7] يُنظر البيان الختامي لهيئة الحوار الوطني على الرابط: https://cutt.ly/hwlK4cuV
[8] https://cutt.ly/qwlLDNRa
[9] https://www.france24.com/ar/20110112-hezbollah-allies-resign-lebanon-unity-government-hariri-un-tribunal-assassination
[10] https://www.bbc.com/arabic/middleeast/2011/01/110112_hezbollah_lebanon_gov
[11] نص إعلان بعبدا على الرابط: https://cutt.ly/ewlLG9LE
[12] https://cutt.ly/7wlLGagJ
[13] تبقى هذه المسألة موضع خلاف نظرًا لوجود سابقة تتمثل بانتقال أحد المحسوبين على الرئيس ميشال سليمان (وزير الدولة عدنان السيد حسين) الى صف حزب الله في الاستقالة من الحكومة الحريرية بتاريخ 12/1/2011 ليصبح عدد المستقيلين 10+1 اي الثلث زائد واحد مما أفقد الحكومة نصابها.
[14] تصريحات لقادة من 14 آذار، صحف النهار والمستقبل والجمهورية، في 16 و17 شباط/فبراير 2014
[15] المستقبل 16 شباط/فبراير 2014
[16] ثريا شاهين، المستقبل 16 شباط/فبراير 2014
[17] اعلن رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري في حديث صحافي ، أن السفير الامريكي في لبنان “ديفيد هيل” ، نقل له خلال لقاء عقد مؤخرًا ببيروت، موقفًا أمريكيًا يشجع على تشكيل حكومة لبنانية جامعة يشارك فيها “حزب الله ” https://cutt.ly/Hwl7uojk
وكشف مصدر قيادي مسيحي لـصحيفة «اللواء» أن الفرصة متاحة أمام ولادة الحكومة… مشيرًا الى أن الولايات المتحدة تدعم تأليف حكومة جديدة، وكذلك فرنسا وأوروبا فضلًا عن المملكة العربية السعودية وإيران https://cutt.ly/5wl7uFDL
[18] ثريا شاهين، المستقبل16 شباط/فبراير 2014 . ويُنظر تقرير: “لا حكومة في الأفق والخوف من فراغ رئاسي قريبًا” . وحدة تحليل السياسات في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات | 28 نوفمبر 2013 https://cutt.ly/Gwl7iyJk
[19] همس في الضاحية: نعم نحن خائفون، جريدة الأخبار، محمد نزال، الأربعاء 5 شباط 2014 ،
حالة الرعب في الضاحية الجنوبية لا يمكن إخفاؤها، وتتراجع أجواء الحياة العامة بشكل لافت جدًا، موقع ناوليبانون، قاسم قصير، 22 كانون الثاني 2014
هنا القلق والخوف.. هنا الضاحية “أم الحياة”، السفير، سعدى علوه، الخميس 23 كانون الثاني 2014
[20] دول مجلس التعاون الخليجي تتخذ اجراءات ضد منتسبي حزب الله بدولهم، وكالات، 6/11/2013
http://www.factjo.com/pages/newsdetails.aspx?id=41772
[21] ثريا شاهين المستقبل 16 شباط/فبراير 2014
[22] ريتا صفير؛ “رؤساء بـ “شطرنج الأمم”… من بشارة الخوري إلى ميشال سليمان هل تلفح رياح “الربيع العربي” استحقاق 2014؟”. ملف رئاسيات 2014 . النهار، 19 نيسان 2014
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.