تَجَنُّب الهاوية

بقلم مايكل يونغ*

ساعدت استقالة هنري شاوول في الأسبوع الفائت من منصبه الإستشاري في وزارة المالية اللبنانية على تعزيز الشعور الكئيب الذي يشعر به الكثير من اللبنانيين بشأن مفاوضات حكومتهم مع صندوق النقد الدولي. كان السبب المُعلَن لشاوول للإستقالة هو أنه خلص إلى أنه “لا توجد إرادة حقيقية لتنفيذ إصلاحات أو إعادة هيكلة القطاع المصرفي”.

قد يكون شاوول مُحقاً، ولكن من المُحتمل أن تكون الصورة أكثر تعقيداً. لم تكن نيّة الطبقة السياسية لمتابعة الإصلاح صادقة أبداً ولن تكون مطلقاً. لكن ما يحدث هنا ليس نوايا. إنها قضية وجود. إن السياسيين والأحزاب في لبنان على دراية تامة بما يعنيه لا اتفاق مع صندوق النقد الدولي. إذا كانت لدينا أي شكوك، فقد بدّدها الوزير السابق جبران باسيل في الأسبوع الماضي عندما أعلن في مؤتمر صحافي: “إذا فقدنا خيار صندوق النقد الدولي، فسوف نفقد كل إمكانية للتمويل الغربي وأي إمكانية للإستثمار والمشاريع مثل الكهرباء والبنية التحتية وأي إمكانية لإنعاش القطاع المصرفي والاقتصاد”. إن عواقب مثل هذا الفشل ستؤدي إلى سيناريو “مثل المثال الفنزويلي”.

بدون صفقة صندوق النقد الدولي، سيواجه لبنان تضخّماً مُفرِطاً وانتشار الفقر وانهيار الدولة والإنقسام. عندما تفقد الليرة قيمتها، ستفشل مؤسسات الدولة، وخصوصاً الجيش وقوات الأمن. هذا لن يؤدي بالضرورة إلى حرب أهلية، لكن الأحزاب السياسية ستتولى أمن طوائفها، مما يؤدي إلى عودة ظهور الجيوب الطائفية التي تُذكّرنا بسنوات الحرب. في حين أن هذا قد يبدو كما لو أنه سيُعزّز الأحزاب الطائفية، فإن رعاية مجتمعات بأكملها ستكون لها سلبيات كبيرة في وقت الأزمة الاقتصادية الخطيرة. وسوف تُمثّل عبئاً هائلاً من شأنه أن يطغى على الأطراف في نهاية المطاف، مع عدم وجود احتمالٍ لحلّ. يُمكن للوضع أن ينهار بأكمله بما فيه الصرح الذي سعى السياسيون والأحزاب إلى الحفاظ عليه.

ويبدو أن مثل هذه النتيجة لا يريدها “حزب الله”. إن الحزب لم يتسلّم القيادة العليا للدولة اللبنانية، وهي ميزة منحها لإيران، للتخلّي عن كل ذلك حتى تتمكن الطبقة السياسية من الإستمرار في السرقة. وعلى أي حال، بدون صفقة صندوق النقد الدولي، كما يُوحي باسيل عن غير قصد، هناك احتمال ضئيل بأن غالبية قنوات الفساد التي أمضى السياسيون سنوات في وضعها ستبقى. لقد جعلت الدولة المتداعية بالفعل من الصعب للغاية على “حزب الله” التفكير في مواجهة عسكرية مع إسرائيل، إذا كانت إيران في حاجة إليها. دولةٌ في حالة تفكّكٍ مُتقَدِّم ستدعو إسرائيل لمهاجمة الحزب بقوة مُدمّرة.

وبعبارة أخرى، سواء كانوا صادقين أم لا، فإن السياسيين والأحزاب يحتاجون إلى صفقة صندوق النقد الدولي بالطريقة عينها التي يحتاج فيها الجسم إلى الدم. ثم كيف نُفسّر عدم وجود زخمٍ في المفاوضات بين الحكومة وصندوق النقد الدولي؟ بكل بساطة من حقيقة أنه لا يوجد أحدٌ في لبنان يتخلّى عن شيء ما دون محاولة تأمين شيء في المقابل. من الواضح أنه لكي يتقدّم لبنان في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، سيتعيَّن على أعضاء الطبقة السياسية التخلي وتسليم جزء كبير من شبكات المحسوبية والسرقة. إنهم لا يريدون القيام بذلك من دون الحصول على مكاسب سياسية في هذه العملية.

على سبيل المثال، يشغل حزب باسيل وزارة يُعتبَر إصلاحها من أولويات صندوق النقد الدولي. كما يطمح إلى أن يكون رئيساً للجمهورية، بالرغم من سلسلة إنكاره. هل يعقل أن يقدم تنازلات على جبهة الكهرباء ولا يحاول تأمين ضمانات من نوع ما على الرئاسة؟ وينطبق الشيء نفسه على جميع السياسيين الآخرين، وعلى “حزب الله”. نحن في مرحلة أولية اليوم حيث لا تجري المفاوضات بين لبنان وصندوق النقد الدولي، ولكن بين السياسيين والأحزاب اللبنانية أنفسهم استعداداً لاتفاقٍ مع صندوق النقد الدولي.

كيف يمكن فك عقدة الطموحات المُتصادمة هذه، وهل يملك صندوق النقد الدولي الصبر للانتظار حتى يتمكّن اللبنانيون من ترتيب أوضاعهم الداخلية؟ الإجابات غير معروفة. قد يكون السياسيون مُحبطين إلى درجة أنهم سيتشاجرون ويتصارعون إلى أن يُدفن لبنان في القبر. لكن فهمهم للنتيجة الرهيبة لهذا قد يحتوي في الواقع على أسوأ غرائزهم.

بدوره، لدى صندوق النقد الدولي خيارُ فَرضِ موعدٍ نهائي على اللبنانيين للتوصّل إلى إجماع داخلي، وإلّا فإنه سيتحوّل إلى مكان آخر. في هذه المرحلة، سيزداد نفوذه بشكل كبير، حيث لن يكون لدى اللبنانيين خيار آخر سوى العودة إلى الصندوق في حالة أكثر احتياجاً وقابلية لأي شرط. علاوة على ذلك، فإن الكميات المحدودة نسبياً من المساعدات التي يقدمها صندوق النقد الدولي للبنان من المحتمل أن يمنحه فرصة للعب اللعبة الطويلة. لبنان ليس من أولويات صندوق النقد الدولي، ما يعني أن المنظمة الدولية يُمكنها تعليق البلاد، وإرغام اللبنانيين المنكوبين على التوافق والعودة بشروطها.

ثم هناك سؤالٌ حول ما إذا كانت الولايات المتحدة ستستخدم حق النقض (الفيتو) ضد حزمة صندوق النقد الدولي. في حين أنه لا يمكن استبعاد ذلك، خصوصاً أن الموقف في واشنطن تجاه لبنان يتشدّد، فلن يكون من السهل عرقلة خطة إنقاذ محدودة والحكم على ملايين الناس بالفقر الذي لا هوادة فيه. من المُحتمل أن ينصح الحلفاء الأوروبيون ضد مثل هذا المسار، بينما ستكون هناك أصوات في الولايات المتحدة تُحذّر من المخاطر التي قد تنشأ عن خلق دولة فاشلة أخرى في الشرق الأوسط. إذا توصل لبنان وصندوق النقد الدولي إلى اتفاق، ما يعني أن اللبنانيين اتخذوا خطوات أقنعت الصندوق، فإن ذلك سيجعل حق النقض الأميركي أكثر تعقيداً.

إذن ما هو المخرج من الطريق المسدود الحالي؟ إنه أمرٌ مؤسفٌ ولكن فقط الطبقة السياسية، مهما كان فسادها وعدم كفاءتها، يُمكنها الإجابة عن هذا السؤال. لقد خدمت حكومة حسّان دياب غرضها في تحييد زخم الاحتجاجات التي بدأت في تشرين الأول (أكتوبر) 2019. لقد كان اختراعاً للسياسيين لم يكن مُقدَّراً له أبداً أن يدوم طويلاً. أثبت دياب أنه يُغرّد خارج السرب، مُعتقداً أنه بسبب دعمه من قبل معظم القوى السياسية، يمكنه العمل بشكل مستقل. والحقيقة أن الطبقة السياسية هي التي أعاقته وتريد رؤيته يفشل. كانت تعليقاته الأخيرة حول الإنجازات الكبرى لحكومته، وكذلك كيف تجاوزه “الانقلاب”، سخيفة في انتفاخها الذاتي وتشويه سمعته.

من المحزن أن نعترف بذلك، ولكن ربما يكون السبيل الوحيد للخروج من هذا الوضع هو أن تتوصل الأحزاب والسياسيون إلى صفقة شاملة تُحدّد شروط تأييدهم لخطة إنقاذ صندوق النقد الدولي. لن يكون الأمر سهلاً، لكن الجميع يرى أنه لا توجد إمكانية أخرى. حتى نصيحة الأمين العام ل”حزب الله”، السيد حسن نصر الله بـ “التطلع إلى الشرق” واحتضان إيران وسوريا والصين لا يمكن أن تؤخذ على محمل الجد، ما لم يكن هدفه الحقيقي هو تقديم بديل غير مُستساغ بحيث يدفع السياسيين إلى التنازل عن مطالبهم القصوى والإتفاق مع صندوق النقد الدولي. من بين هذه الدول، تُعاني إيران وسوريا من ضائقة اقتصادية شديدة، في حين أن الصين لم تُبدِ أي اهتمام على الإطلاق بإنعاش الاقتصاد اللبناني. ولا يشترك أغلبية اللبنانيين في رؤية نصرالله. وأوضح باسيل ذلك في ملاحظاته في الأسبوع الفائت، وأهل السنّة في البلاد معادون بشدة للتخلي عن العالم العربي لصالح إيران.

دعا الرئيس ميشال عون إلى حوار وطني في القصر الرئاسي في بعبدا، يُمكن أن يوفر منتدى للتبادل بين القوى السياسية في البلاد. لا تزال ملامح هذا المنتدى قيد المناقشة، ولكن قد يكون من الضروري المضي قدماً في شيء من هذا القبيل. ستكون هناك عقبات كثيرة أمام صفقة صندوق النقد الدولي في الأشهر المقبلة، لكن لبنان ببساطة ليس لديه خيار آخر سوى الموافقة على واحد. لذلك، على الرغم من أنه من المُغري افتراض الفشل اليوم، فإن الواقع يُشير إلى اتجاه مختلف.

  • مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت. يُمكن متابعته على تويتر:  @BeirutCalling
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى