المصارف اللبنانية وأزمة الدين العام

بقلم سليم مهنّا*

لم يَعُد سراً أن المصارف اللبنانية تُواجه مشكلةً حقيقية في توفير السيولة لعملائها الذين فَقَدوا الكثير من ثقتهم بالقطاع المصرفي اللبناني، وذلك بعد إحجامها عن إجراء التحويلات المالية إلى الخارج، وتوقّفها عن دفع العملات الأجنبية نقداً بعد ردحٍ طويل من الزمن كان فيه الدولار الأميركي مُلازماً للتعاملات النقدية في المصارف إلى جانب الليرة اللبنانية.

كيف ظَهَرت هذه الأزمة المالية ولماذا لم يتمّ تداركها مُسبَقاً؟ هل تعاطت المصارف مع تمويل الدين العام بخفّة ففرّطَت بمصلحة المُودِعين عبر حصر غالبية “استثماراتها” في سندات الدين العام، وتسبّبت بتراكمه إلى درجة التخلّف عن سداد الديون السيادية وتصنيف لبنان للمرة الأولى في تاريخه كبلدٍ شبه مُفلس ومُتخلِّف عن الإيفاء؟

من المعلوم أن المصارف الخاصة في كل أنحاء العالم تعمل برعايةٍ ورقابةٍ من المصارف المركزية، وتتأثر فيها تأثّراً عميقاً وقوياً. وهذا التأثير يزداد قوة في البلدان ذات الإقتصادات الضعيفة حيث تلجأ المصارف الخاصة بشكل دائم إلى المصارف المركزية لحمايتها ومدّها بالسيولة لا سيما خلال الأزمات الأمنية والإقتصادية. وهذا ما كان يحدث تكراراً في لبنان، ما جعل من المصرف المركزي حاجةً وضرورةً لاستمرار المصارف في تقديم خدماتها، ولبقائها في بعض الأحيان.

لقد دأب مصرف لبنان على الطلب من المصارف التجارية شراء سندات الخزينة المحلّية وسندات “اليوروبوندز”، وتشجيعها على ذلك مُقابل فوائد مُغرية، ما حدا بها الى دفع فوائد مُرتفعة أدّت الى جذب ودائع محلية وخارجية ضخمة، حيث بلغ إجمالي ودائع القطاع المصرفي اللبناني مستوىً قياسياً وصل الى ثلاثة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي.

وفي حين استمرت المصارف على هذا النحو في تمويل الدين العام برغم المخاطر الناجمة عن تركيز التوظيف باتجاه واحد، وفي ظل النزف المُستمر لاحتياطي البنك المركزي من العملات الأجنبية، ومع الإضطرابات الكبيرة في المنطقة وتراجع المؤشرات الإقتصادية، برزت الى الواجهة أزمة سيولة حادّة انعكست على مرونة المصارف وأجبرتها على اتخاذ تدابير صارمة تمثّلت في تقييد السحوبات الداخلية والتحويلات الى الخارج، في سابقة لم تحصل طوال تاريخ القطاع المصرفي الذي طالما تمتّع بسمعة إقليمية وعالمية ممتازة.

أمام الوضع الحالي لا بل المأزق الحالي، تبرز جملة تساؤلات حول ما حدث أبرزها:

–  ماذا كان دور السلطة السياسية ووزارة المال وأجهزة الرقابة تحديداً؟ ولماذا تمّ التعامي عن الواقع المالي للمصرف المركزي والبحث دائماً عن تبريرات لإجراءاته وسياساته النقدية؟

–  لماذا استمرت المصارف الخاصة بتوظيف مُعظم أموال المُودعين في المصرف المركزي، لاسيما في السنوات الأخيرة ما قبل الأزمة، حيث كثر الحديث والتقارير المُقلقة عن حجم الدين العام والإحتمالات المؤكّدة لحصول أزمة مالية خطيرة في ظل استمرار السياسات المالية والاقتصادية الضعيفة والنزف المتواصل في مالية الدولة نتيجة المُناكفات السياسية والهدر والفساد المُستشري؟

–  هل كان ينبغي على المصارف التنبّه مُبكراً جداً لخطورة ما يحدث، والتوقّف فوراً تحت أية ضغوطات أو مُبرّرات عن تمويل النظام السياسي اللبناني من أموال مُودعيها، وعدم تعريضهم لخطر فقدان مُدّخراتهم، وتالياً تعريض المصارف ذاتها لخطر فقدان السيطرة والإفلاس؟

–  لماذا استمر المصرف المركزي بسياسة حماية سعر صرف الليرة واستنزاف الاحتياط من العملات الأجنبية والمُكوَّن أساساً من ودائع المصارف لديه، وهو يعلم يقيناً انه لن يستطيع الإستمرار بهذه الحماية الى أجل طويل بسبب الخلل الخطير في الميزان التجاري والحاجة الدائمة إلى ضخّ كميات كبيرة من العملات الأجنبية غير المتوفرة؟ لماذا لم يقم بالتحرير التدريجي لسعر الصرف بدل المكابرة المُكلفة لحماية العملة الوطنية؟

الإجابة عن الأسئلة السابقة تؤكّد غياب دور السلطات المالية المُناط بها مراجعة السياسات النقدية والمالية ومراقبتها، فضلاً عن تخلّف المصارف عن دورها في تحليل وضعية مصرف لبنان وطلب التوضيحات والضمانات اللازمة منه، وعدم اتخاذها لقرارٍ جريء بالتوقّف عن اقراض الدولة من خلاله، والتزامها عدم تجاوز هذا الدين لحدٍّ مُعيَّن أو نسبة مُعيَّنة من موجوداتها مهما كانت الضغوطات والمُغريات.

تتحمل المصارف مسؤولية عدم إعلان حالة طوارئ مالية للفت الإنتباه إلى خطورة استمرار ما كان يحدث من نزف مُتواصل، كما تتحمّل مسؤولية الإسهام في جذب المزيد من رؤوس الأموال بفوائد مُرتفعة لتوظيفها في سندات الدين العام وتحقيق مكاسب مَهُولة بغض النظر عن المخاطر الحقيقية الواضحة في ما يتعلّق بقدرة مصرف لبنان على إعادة الودائع المُوظّفة لديه عند استحقاق آجالها.

هل فقدت الدولة والمصارف الخاصة السيطرة، وما هي الخطوات الضرورية لوقف التدهور واستعادة الثقة؟ برأينا ورأي الكثير من الخبراء المُتابعين أن الفرصة ما زالت قائمة لمُعالجة الوضع عبر العديد من الإجراءات المالية والإقتصادية، ومنها جدولة الدين العام وإعادة هيكلته، والإستفادة من الموجودات المهمة للدولة وأهمها الذهب والمرافق الحيوية والأصول العقارية، فضلاً عن الفرصة الواعدة باستخراج الغاز والنفط، ولكن الأهم والملح جداً هو وقف التسيّب والهدر والفساد، وترشيد الإنفاق العام، وتفعيل دور القضاء في استعادة الأموال العامة المنهوبة، واستعادة ثقة الناس والجهات الدولية القادرة على مساعدة لبنان لتجاوز الصعوبات والإنطلاق من جديد.

  • مصرفي وباحث إقتصادي لبناني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى