لبنان بحاجةٍ فورية إلى استراتيجيةِ دعمٍ جديدة من المانحين قبلَ فَواتِ الأوان

يشكل برنامج حماية الخدمات الأساسية المنظم تنظيمًا جيدًا، والمُمَوَّل من المجتمع الدولي، ضرورة أساسية للحفاظ على إمكانية تعافي لبنان مرة أخرى.

الرغيف: لا يصل إلى كثيرٍ من اللبنانيين.

إسحاق ديوان وحنين السيّد*

يحتاجُ لبنان بشكلٍ مُلِحّ إلى استراتيجيةِ مساعداتٍ جديدة. وسوفَ يحتاجُ إلى دعمٍ سخي للتعافي عندما تبدأ الإصلاحات. لكنه يحتاج أيضًا إلى كل المساعدة التي يمكنه الحصول عليها الآن للتخفيف من وضعه البائس الحالي. إنَّ المطلوبَ هو استراتيجية من المانحين تسير على ساقين:  أولى تُقدّمُ دفعةً كبيرةً لإعادة الإعمار مشروطةً بالإصلاحات الاقتصادية والمؤسّساتية، وثانية، بالتوازي مع ذلك، توفّرُ الدعمَ العاجل للشعب اللبناني.

الاستراتيجية الحالية تُراكِمُ الضغطَ على الحكومة للانخراط في إصلاحاتٍ أساسية كشرطٍ مُسبَق للمساعدة التنموية. وهذا هو الموقف الصحيح، إذ أنَّ المساعدات السابقة للحكومات المتعاقبة سمحت بتجنّب الإصلاحات. ولكن لكي تصبح هذه المرحلة الأولى أكثر فعالية، يتعيّن على الجهات المانحة الدولية أن تُجدّدَ تعهداتها، وأن توضِّحَ شروطها، وأن تلتزمَ مسار العمل هذا بشكلٍ أكثر انتظامًا مما يحدث الآن.

حتى مع ذلك، لا شيءَ يبدو كافيًا؛ فهناك حاجة أيضًا إلى الدعم الفوري بشكلٍ عاجل. في الآونة الأخيرة، كان هناك اهتمامٌ متزايد باستراتيجيات مساعدات في بيئات “متباعدة”، حيث تنقطع الدول عن التعاون السياسي والتنموي الدولي المنتظم، مثل أفغانستان أو سوريا أو السودان. وعلى الرُغمِ من التحديات الكامنة في العمل في مثل هذه البلدان أو المناطق، فإنَّ الأبحاث الأخيرة التي أجراها مركز التعاون الدولي التابع لجامعة نيويورك تؤكّدُ بقوة أن هناك “مصالحَ وطنية سليمة، وأسبابًا جيوسياسية، وأمنًا جماعيًا، وأسبابًا أخلاقية تدفعُ الجهات المانحة إلى الاستمرار في المشاركة”.

وتنطبق الحجة نفسها بالقدر عينه على لبنان. إن عدم مساعدة السكان الآن سيؤدّي إلى جَرحِ البلاد بشكلٍ كبير، ما يجعل احتمالات التعافي في المستقبل بعيدة كل البعد من أيِّ وقت مضى.  لقد انخفض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي من 10,000 دولار إلى 4,000 دولار؛ وتم تقسيم الأجور الحقيقية على خمسة؛ ووقع نصف السكان في براثن الفقر؛ وربع الأسر لديها طفل ينام جائعًا؛ وارتفعت معدلات عدم المساواة. يحدث هذا في سياقِ انهيار الدولة. وانخفضت النفقات العامة بمقدار عشرة أضعاف. ويتقاضى المعلمون والممرّضون أجورًا زهيدة للغاية، وقد توقّفَ العديدُ منهم عن العمل. جيلٌ كامل مُعرَّض للخطر: فقد تسرّبَ ثلث الأطفال من المدارس العامة، ونسبة متساوية لا تتلقّى الرعاية الصحية الأوّلية.

إلى جانب الحد من المعاناة الإنسانية، فإن الساقَ الثانية ــولنسمّها “برنامج حماية الخدمات الأساسية”ــ ستسعى إلى منع الجروح الحالية من أن تؤدي إلى السرطان في مراحله النهائية. وعلى وجه التحديد، سيضمن هذا البرنامج استمرار حصول جميع الأُسَر على الحدّ الأدنى من الخدمات الأساسية، بما في ذلك الصحة والتعليم وفُرَص كسب العيش وشبكة الأمان الاجتماعي. ومن خلال القيام بذلك، فإن برنامجَ المساعدات الخارجية من شأنه أن يُقلّلَ من المخاطر الجسيمة التي تواجه البلاد الآن – إرتفاع معدلات الجريمة، والمزيد من الهجرة غير الشرعية، وتفاقم التوترات الطائفية.

من ناحية أُخرى، تزيد قضية اللاجئين السوريين من تعقيد الوضع. إنَّ الدعمَ الدولي الذي يتلقّونه يولد شعورًا بالظلم والغضب بين المواطنين، حيث أن الوَعدَ بتقديم الدعم المالي للفقراء اللبنانيين لم يتحقّق بكمياتٍ كبيرة، ما أدى إلى فجواتٍ تمويلية كبيرة بشكلٍ عام. هناك ارتفاعٌ خطيرٌ في معدّلات كراهية الأجانب، والتي يؤجّجها الساسة الذين يسارعون إلى إلقاء اللوم عن إخفاقاتهم على كبش فداء مثالي.

بلغت المساعدات الإنسانية، التي تأتي بشكلٍ رئيس على شكلِ منحٍ وتستهدفُ في الغالب اللاجئين السوريين، نحو 1.8 مليار دولار لكلِّ سنة من السنوات الثلاث الماضية. وتشير تقديراتنا إلى أن برنامج حماية الخدمات الأساسية الجيد التنظيم، والمفتوح لجميع المحتاجين، سيخدم حوالي 4 ملايين شخص، 55% منهم لبنانيون، وسيُكلّف حوالي 3 مليارات دولار سنويًا.

وفي واقع الأمر، فإن المطلوبَ هو زيادة حجم الدعم الإنساني وتنظيمه بشكلٍ أفضل كبرنامجٍ مُتماسكٍ متوسّط الأجل، ضمن هيكلٍ يحافظ على الضغوط من أجل الإصلاحات. أوّلًا، أصبح الدعم الآن مُجَزَّأً وغير فعّال. على سبيل المثال، هناك أكثر من 100 برنامج منفصل للتحويلات النقدية. وهذا يجعل من المستحيل ضمان عدم وصول بعض الأشخاص إلى برامج متعددة بينما يفتقر الآخرون إلى الوصول إلى أيٍّ منها. ثانيًا، المستوى الحالي من الدعم ليس كافيًا: فهناك الآن نسبة أكبر كثيرًا من السكان تحتاج الآن إلى الخدمات الأساسية نظرًا لانخفاض قدرتها على تحمّل تكاليف عروضٍ مُماثلة في القطاع الخاص، كما أصبحت شبكة الأمان الأساسية اللازمة لمنع الفقر المدقع أوسع نطاقًا. ثالثًا، يتم تمويل الدعم الحالي عامًا بعد عام، وهو ما لا يُقلّل من انعدام الأمن الأسري. وهذا يؤدي إلى تفاقم مخاطر تسرب الأولاد من المدارس، أو الرغبة في الهجرة، حتى بشكلٍ غير قانوني، أو الوقوع في الجريمة. وأخيرًا، يتم الآن تقديم بعض الدعم من خلال المنظمات السياسية والطائفية، ما يجعل المواطنين رهينة للالتزامات الزبائنية.

وحتى في أفضل الحالات، يجب أن يستمر دعم الخدمات الأساسية بعد سنواتٍ عدة من استقرار الاقتصاد، نظرًا لفقر الدولة. ويجب أن يعتمد صرف هذه الأموال بشكلٍ عملي على القدرات والمساءلة حيثما بقيت، في القطاعات العامة والخاصة والجمعوية. ولكن لا بدَّ من هيكلة الأموال على النحو الذي يؤدي إلى تجنب الاستيلاء السياسي وبناء قدراتٍ مفيدة للمستقبل. وأفضل طريقة للقيام بذلك هي الجمع بين طريقة التحويل المباشر إلى الأسر والتحويلات إلى مرافق الخدمات، مثل المدارس أو العيادات، وكلها مدعومة بشفافية كاملة ومجموعة من آليات المساءلة الرأسية والأفقية، حيث يتم تحديد دور مجموعات المجتمع المدني الذي سيكون هو المهيمن.

وينبغي أن تشملَ آليات التعليم المدفوعات المباشرة للمعلمين، والمنح الشاملة للمدارس، ومنح التعليم للطلاب ذوي الدخل المنخفض وفي ما بعد للطلاب المقبولين في الجامعات المحلية. وعلى نحوٍ مماثل، ينبغي لشبكات الأمان أن تقومَ بتوزيع الأموال النقدية مباشرة على الأسر الفقيرة، بشرط اتباع سلوكيات مفيدة اجتماعيًا (مثل الالتحاق بالمدارس). ويمكن أن يتم دعم سُبُل العيش من خلال مؤسسات الائتمان الصغير. وفي قطاع الصحة، ينبغي تقديم الدعم المباشر لأفقر شريحة من السكان من أجل الرعاية الوقائية والعلاجية ومن أجل توفير حزمة ترشيدية من الرعاية العلاجية في المستشفيات.

إن بذورَ مثل هذا البرنامج موجودة بالفعل. ويُقدّمُ برنامج شبكة الأمان الاجتماعي الحالي الذي يموله البنك الدولي تحويلات نقدية مباشرة وغير مشروطة، وقد ساعدَ إنشاء سجلٍّ إلكتروني بشكلٍ كبير في الحدّ من الوسطاء والفساد. وعندما تم تحرير الأسعار المحلية الرئيسة (بما في ذلك تعريفات الأدوية والغذاء والوقود والكهرباء)، ومرة أخرى، خلال ذروة جائحة كوفيد-19، لعب البرنامج دورًا رئيسًا في تخفيف المعاناة. يقدّمُ برنامجٌ جديد مشترَك بين البنك الدولي واليونيسيف تكملةً لأجورِ معلمي المدارس العامة بشرط حضور المعلّمين. ويتم تقديم المنح الشاملة للمدارس من قبل الحركات الوطنية مثل حركة “نفضة”. وما يتبقى هو إضافة عنصر الصحة وتوسيع هذه الجهود إلى برنامجٍ مُتماسِك متوسّط الأجل.

ولبناءِ مثل هذا البرنامج الجديد، يتعيّن على الجهات المانحة تنسيق أعمالها بشكلٍ وثيق. وسيتعيّن عليها ترسيخ البرنامج مع منظمات المجتمع المدني، التي يجب أن ترقى إلى مستوى الحدث وتكون بمثابة النظير الرئيس للمانحين الدوليين في جهود المساعدات المحلية، بالإضافة إلى لعب أدوارٍ مركزية في تقديم الخدمات وفي ضوابط وتوازنات العمليات. وقد أظهرت تجربة صندوق متعدد المانحين (B5) الذي تم إنشاؤه بعد انفجار مرفَإِ بيروت أنَّ هذا ممكنٌ – ولكنه يمثّلُ تحدّيًا أيضًا.

إلى جانب موافقة الدولة على عدم التدخّل، فإننا نودُّ أيضًا أن نضع شرطًا كلّيًا رئيسًا على البرنامج: وهو أن يظلَّ العجزُ المالي صغيرًا بالقدر الكافي للتخلّصِ من التسييل المالي والتضخّم المُفرِط. فهل يؤدّي مثل هذا الدعم إلى تقليص الحوافز التي تدفع النظام إلى تنفيذ الإصلاحات التي تشتدُّ الحاجةُ إليها؟ لا بدَّ أن يتم تنظيم الساق الثانية بشكلٍ جيد على نحوٍ يمنع سيطرة النخبة. ومن خلال فصل دعم الخدمات الأساسية المقدَّمة مباشرة للمواطنين عن التعامل مع الدولة، فإنَّ ذلك من شأنه أن يُعزّزَ الساق المشروطة الأولى من خلال جعلها أكثر مصداقية. وأخيرًا، لا نعتقدُ أنَّ وجودَ شعبٍ أقل بؤسًا من شأنه أن يُخرِجَ النظامُ من المأزق. بل على العكس تمامًا، ينبغي للبرنامج أن يعزّزَ قدرة المواطنين على الاحتجاج ومواصلة الضغط، خصوصًا أنه يُمَكِّنُ المجتمعات المحلية من لعبِ دورٍ أكثر نشاطًا في إدارة الخدمات الأساسية. باختصار، من خلال حماية مستقبل البلاد إلى أن يتطوّرَ الوضع السياسي بالقدر الكافي للسماح بإحداثِ انفراجة، يُشكّلُ برنامج حماية الخدمات الأساسية المُنَظَّم تنظيمًا جيدًا، والمُمَوَّل من المجتمع الدولي، ضرورةً أساسية للحفاظ على إمكانية تعافي لبنان مرة أخرى.

  • إسحاق ديوان هوأستاذ علوم الاقتصاد في جامعة باريس للعلوم والآداب. يدير المرصد المُنشَأ حديثًا حول الاقتصاد السياسي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وهو أيضًا مدير الأبحاث في مختبر التمويل من أجل التنمية، ومدير سابق في البنك الدولي، وباحث غير مقيم في برامج لبنان والاقتصاد والطاقة في معهد دراسات الشرق الأوسط في واشنطن.
  • حنين السيّد هي باحثة متخصصة في التنمية البشرية تقيمُ في لبنان. كانت في السابق باحثة متخصصة رائدة في البنك الدولي تعمل في مجال التنمية البشرية والحماية الاجتماعية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى