“موديز” خفَّضَت تصنيف لبنان إلى “مُتَعثِّر” والشهادةُ رفَعَته إلى “أرضٍ مُقدَّسة”

بقلم البروفِسور مارون خاطر*

في خطوةٍ مُنتَظَرَة وذات دلالاتٍ وأبعادٍ ماليَّة واقتصاديَّة خطرة، خَفَّضت وكالة “موديز” (Moody’s) الأميركية الدولية تصنيف لبنان الائتماني الى مرتبة “الأسوأ”. بعد أيام قليلة جاء انفجار بيروت ليُصنّفه منكوباً ومقتولاً ومظلوماً وثائراً أبداً. قتلت السلطة الشعب وشرَّدَته بعدما أفقرته وسرقت أمواله. سَقَطَت حكومة حسَّان دياب ودَخَل لبنان في المجهول السياسيّ بعد المجهول الماليّ والاقتصادي والمعيشيّ والإنسانيّ.

يعكس تخفيض تصنيف لبنان الائتماني من (CA) الى (C) الخطورة غير المسبوقة للوضعَين الإقتصادي والمالي. فقد نقل هذا التصنيف الديون السيادية اللبنانية رسمياً من حالة الإمكانية الضئيلة للتعافي إلى حالة التخلّف عن السداد (Default). على صعيد آخر، تكمن خطورة هذا التصنيف بعدم تضمينه نظرةً مستقبليَّة وذلك بسبب رصد الوكالة لخسائر كبيرة من المُتوقَّع ان يتكبَّدها الدائنون بما يتجاوز %65 من قيمة استثماراتهم. تجدر الإشارة إلى أنَّ خطة الإنقاذ الحكومية الفذَّة، والتي تشكل قاعدة الارتكاز في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، تلحظ شطب %75 من قيمة هذه الديون.

قبل البدء بتحليل حيثيات التصنيف الجديد للبنان، نٌشيرُ إلى أن وكالة “موديز” تَعتَبر أن الغَرَضَ الأساسي من تصنيفها هو إعطاء المستثمرين نظامَ ترتيبٍ بسيط يُمكِّنهم من قياس جدارة الائتمان المستقبلية النسبية لأوراقهم المالية. تُضيف الوكالة أن تصنيفاتها ليست توصيات أو مُرتكزات للقرارات الإستثمارية. من ناحية أخرى، لا تستند التصنيفات على اتجاه الأسواق على الرغم من وجود رابطٍ بين القيمة السوقية والأخطار الإئتمانية. بناءً على ما تَقدَّم، لا يُمكن اعتبار تصنيف “موديز”، أو أية وكالة تصنيف أُخرى، لبلدٍ مُعيَّن في حالة التخلّف عن السداد بمثابة إعلان إفلاس . فالتصنيفاتُ الإئتمانية تُقيّم قدرة الدول على الوفاء بالتزاماتها المُتعلّقة بالديون عبر دراسة القوّة الاقتصاديّة والمؤسّساتيّة والماليّة، بالإضافة الى مناعة البلدان في مواجهة مخاطر الأحداث. لذلك فإن درجات التصنيف الإئتماني تُعبِّر عن رأي الوكالات بمستوى المخاطر المالية المُرتَبطة بالإصدارات الذي تقوم بتصنيفها. من ناحية ثانية، لا تأخذ التصنيفات الإئتمانية بعين الإعتبار إمكانية إطفاء الديون عبر استعمال الدول لمُمتلكاتها وأصولها. فالدولُ التي تمتلك أُصولاً لا تُعتَبر مُفلسة بالمعنى القانوني، وإن كان التصنيف الإئتماني يعتبرها متخلّفة عن السداد أو مُتعثّرة.

في التاسع من شهر آذار (مارس) 2018، خفَّضت وكالة “موديز” تصنيف فنزويلا الإئتماني إلى درجة (C) نفسها التي انحدر إليها لبنان الذي كان يوماً في قائمة البلدان الأكثر ازدهاراً في العالم. تُبيِّن التقارير التقييميَّة الصادرة عن الوكالة أن الدوافع الرئيسة التي تدعم خفض التصنيف في لبنان وفنزويلا مُتشابهة إن لم نقل مُماثلة. فقد توقعت وكالة “موديز” أن يؤدي التآكل المُستمر في القدرة على الدفع في فنزويلا إلى خسائر فادحة لحاملي السندات، الى جانب تضاعف استحقاقات رأس المال المقبلة مع التخلف المستمر عن دفع الفوائد المُتراكمة على السندات المختلفة. من ناحية ثانية، وفي شقٍّ لا يخلو من السياسة، يشير التقرير الى أن القيود المفروضة على قدرة فنزويلا على إعادة هيكلة ديونها، والتي تفرضها العقوبات الأميركية، تمنع المُستثمرين الأميركيين من قبول أدوات دَين جديدة في ظل تبادل ديون مُحتَمل، الأمر الذي يزيد من تفاقم الخسائر. تجدر الإشارة أخيراً إلى أن وكالة “موديز” وضعت فنزويلا في حالة توقف عن التصنيف (Withdrawn) منذ 14 آب (أغسطس) 2019، فهي لم تعد إذاً مُصنَّفة (C) بل (WR).

أما في ما خصَّ لبنان، فقد توقّعت “موديز” أن ترتفع نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في لبنان لتصل إلى %200 في نهاية العام 2020، وذلك خلافاً لتطلعات الهذيان الحكومي الذي يصبو للوصول بهذا الرقم إلى ما دون ال100% في غضون أشهر وسط تراجع كارثي في عائدات الخزينة. من ناحيةٍ أخرى تُشيرُ الوكالة الى أن التضخّم المُرافق لانهيار العملة، وغياب الخطط الإصلاحية للسياسات الاقتصادية والمالية، يُقلّلان من فُرَص الدعم التمويلي الخارجي الرسمي المواكبة لإعادة هيكلة الديون الحكومية. لا شكّ في أن تخلّف لبنان عن سداد ديونه المُستَحقّة في آذار (مارس) الفائت يُشكّلُ سبباً أساسياً لخفضِ تصنيفه الائتماني، إلّا أن غيابَ الإصلاح المُتلازِم والتخبّط الحكومي، بالإضافة الى تلكّؤ الإستشاري “لازارد” في مُفاوضة الدائنين لأسبابٍ مجهولة، شكّلت عواملَ أدّت إلى تفاقم الأزمة وصولاً إلى الحضيض. وإذا كانت السياسة حاضرة في التصنيف الفنزويلي، فهي إذاً ومن دون شك مُعطىً أساسياً في دراسة التصنيف اللبناني.

تُساهم الأبعادٌ السياسية الإقليمية والدولية للأزمة الاقتصادية اللبنانية في دفع لبنان في اتجاه صراعات المحاور وتجاذباتها. إن ما يتكبّده لبنان اليوم في الإقتصاد ليس إلا أحد أوجه الأثمان السياسية المُترتّبة عليه كنتيجة لاختطاف قراره، ومحاولات تغيير تَمَوضعه على الخريطة السياسية والاقتصادية العالمية. من هنا تبرز أهمية الحياد الإيجابي الذي تُنادي به الكنيسة المارونية على لسان سيٍّدها كخطوة اساسية أولى في رحلة إعادة لبنان إلى موقعه الطبيعي والتاريخي غير المُنتمي للشرق وغير المُرتمي في أحضان الغرب.

أمّا علاقة التصنيف الإئتماني بمفاوضات لبنان مع صندوق النقد الدولي فمُزدَوِجة. من جهة، تُشير المعلومات إلى أن هذه المفاوضات تأثرت سلباً بتخفيض التصنيف فوصلت إلى حدّ التعثّر، على الرغم من نفي المصادر الحكومية. من جهة ثانية، يستند التخفيض الإئتماني للبنان إلى التبعات الكارثية للتخبّط الحكومي، وفشل الوصول إلى مقاربة مُوحَّدة للأرقام التي تُشكّل المُرتَكز في التفاوض مع صندوق النقد. لذلك، فإن إيجاد الحل للخروج من هذه الدائرة المُفرَغة يُثبت ما أشرنا إليه من دورٍ أساسي للسياسة في حلّ الأزمة اللبنانية، وهي بالأساس أزمة سياسية ذات بُعدٍ اقتصادي مقصود.

تجاهلت الأوساط الحكوميَّة قرار “موديز” خفض التصنيف الإئتماني للبنان على الرغم من ان التقرير المُرفَق أشار صراحةً إلى ضعف أداء الحَوكَمة، بخاصة في ما يتعلّق بالسيطرة على الفساد. أشار التقرير أيضاً الى أن تعامل الحكومة غير الجِدّي مع مسألة تطبيق الإصلاحات المطلوبة، وعدم اتّخاذها خطوات فعلية أو تنفيذ إصلاحات بنويَّة بعد إعلانها التوقّف عن السداد، قد ساهمت في الدفع في اتجاه هذا التخفيض. تُشير المصادر إلى أن حكومة إحصاء التحديات وضعت هذا التخفيض في إطار مسلسل المؤامرات الكونيّ والهيوليّ الذي تعرضت له، كما في إطار الحملات المُمَنهجة للضغط على لبنان. تعكس هذه الخفَّة في التعاطي مع ملف التخفيض الإئتماني حالات الإنفصام العميق، والتخبُّط الأبدي، والإنكار المرضيّ، التي اتّسم بها الأداء الحكومي.

أصبَحَ التصنيف الائتماني اليوم جزءاً صغيراً من جلجلة لبنان المصلوب بأيدي حكَّامه. لقد فجَّر أعداء لبنان بيروت وقتلوا أهلها. رَوَت دماء الأطفال والشيوخ أرض لبنان كما فعلت وتفعل دماء الشباب. الأرض التي تغمر أشلاء ابنائها ودماءهم لها تصنيف واحدٌ لا يُخفَّض بل يرتقي ويسمو… لقد صنّفت الشهادة والحب لبنان بمرتبة “أرض مُقدًّسة”… لنُصَلِّ من أجل لبنان!

  • البروفِسور مارون خاطر هو أستاذ محاضر وباحث لبناني في الشؤون الماليَّة والإقتصاديَّة. يُمكن متابعته على تويتر:
    @ProfessorKhater

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى