ويلات عدم المساواة تُوحّد اللبنانيين بكل مشاربهم وتدفعهم إلى الإنتفاض
اللبنانيون مُتّحِدون في التمرّد والثورة، لكن نظامهم السياسي ليس مُصمَّماً لتهدئة غضبهم، فهل ينبغي تغيير النظام وإعلان الجمهورية الثالثة؟
بقلم ليديا أسود*
لأول مرة في التاريخ الحديث يتوحّد اللبنانيون في ثورة. إنهم يرفعون الصوت ويحتجّون منذ 17 تشربن الأول (أكتوبر) الفائت، ولكن ليس وفقاً لخلفياتهم الدينية أو الإجتماعية أو الجغرافية. فهم يُطالبون بإسقاط المنظومة السياسية الفاسدة التي تفرضها نخبةٌ سياسية واقتصادية حرمتهم لفترة طويلة جداً من الفرص الإقتصادية ولمجرّد القدرة على تأمين عيش لائق.
كانت باكورة نجاحهم في 29 تشرين الأول (أكتوبر)، عندما أعلن رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري إستقالة حكومته. والواقع أن مشاعر الغبن المُنتشرة على نطاق واسع ضد النخبة لها ما يُبرّرها عندما نلقي نظرة على البيانات: لبنان لديه واحد من أعلى مستويات عدم المساواة في العالم، إلى جانب تشيلي والبرازيل وجنوب أفريقيا. لقد تمكّنتُ، في إطار دراسة نشرها “مختبر عدم المساواة العالمية” (World Inequality Lab)، من وضع تقديرات عن توزيع الدخل القومي اللبناني بين العامَين 2005 و2014 بفضل سجلات الضريبة الفردية التي توافرت حديثاً. النتائج تتحدث عن نفسها: فقد تبيّن أن نسبة الواحد في المئة الأكثر ثراء بين اللبنانيين تستحوذ على 25 في المئة من الدخل القومي. وعلى سبيل المقارنة، في الولايات المتحدة وفرنسا حيث تزداد اللامساواة وتدور حولها نقاشات عامة، تحصل نسبة الواحد في المئة الأكثر ثراء على 19 في المئة و11 في المئة من مجموع الدخل القومي على التوالي.
إحصائية أخرى لافتة في لبنان، وهي أن نسبة الـ0.1 في المئة الأكثر ثراء بين السكّان، وعددهم نحو 3,700 شخص، تتقاضى مدخولاً يوازي مدخول نسبة الخمسين في المئة في أسفل الهرم، أي نحو مليونَي شخص – ويبلغ عُشر المدخول القومي لدى الفئتَين. إن المجموعة الأغنى، التي تضم أعضاء من الطبقة السياسية، تتمتع بمستوى معيشي مماثل لنظرائها في البلدان ذات الدخل المرتفع، في حين أن الفئات الأفقر تُعاني من الفقر المُدقع، كما هو الحال في البلدان المُنخفضة الدخل. ويؤدي هذا الإستقطاب إلى تفاقم الإنفصال بين النخبة الحاكمة و”البقية”. وقد وجد الشيعة في مدينة صور الجنوبية والسنّة من مدينة طرابلس الشمالية أخيراً أرضية وقواسم مشتركة بينهم. ولا عجب، فإن النخبة السياسية تستولي على ريوع كبيرة على حسابهم.
إن تركيز الدخل في أيدي القلّة ليس ظاهرة جديدة. لقد كان عدم المساواة حاداً في لبنان منذ العام 2005 على الأقل، وهو العام الأول الذي لدينا عنه بيانات. لماذا ظل عدم المساواة غائباً عن النقاش العام حتى الآن؟
إن إنتفاء الأرقام حول الوضع الإجتماعي والإقتصادي في البلاد هو أحد الأسباب. لقد جرى آخر تعداد سكان وطني في العام 1932. ودخل قانون السرية المصرفية حيّز التنفيذ في العام 1956. وآخر دراسة تقدير لتوزيع الدخل (قبل تحليلي) يعود إلى العام 1960! هذا الإفتقار إلى الشفافية ساهم في نشر سرد واسع النطاق مفاده أن عدم المساواة في لبنان لم يكن مرتفعاً بالمعايير التاريخية والدولية.
لعلّ السبب الآخر هو أن المنظومة السياسية التي تسنتند إلى المحسوبيات الدينية، تدفع بالمواطنين إلى التماهي أولاً مع مذهبهم لا طبقتهم الإجتماعية. لدى النخب السياسية محفّزات قوية للإبقاء على هذه الهويات وترسيخها، بما يتيح لها فرض ترتيبات مالية واقتصادية في طوائفها والسيطرة على مناطقها. وتعمد هذه النخب إلى تضخيم الريوع المستمدّة من القطاعَين المالي والعقاري اللذين يعتمد عليهما الإقتصاد اللبناني. في المقابل، تُوفّر هذه النخب الطائفية لمجتمعاتها المنافع العامة الأساسية مثل الوظائف، وتخفيض الرسوم المدرسية، أو الخدمات الصحية. وحتى لو كان اللبنانيون مُدركين على الأرجح لهذه المخططات، إلّا أنهم لم يحاولوا الإطاحة بالمنظومة حتى الآن لأنهم فضّلوا، بسبب غياب الدولة، الحصول على منافع عامة يُقدّمها لهم السياسيون الأثرياء بدل عدم الحصول مطلقاً على هذه المنافع.
وهكذا، يدور لبنان في حلقة مفرغة. فقد تسبّب اقتصاده الريعي، مقروناً بغياب شبه تام للدولة، بظهور مستويات مرتفعة جداً من اللامساواة والفقر، ما أفضى بدوره إلى زيادة اعتماد المواطنين على الخدمات التي يؤمّنها لهم زعماء الطوائف. وقد أتاح ذلك لهؤلاء الزعماء أن يواصلوا الحصول على الدعم من اللبنانيين، كما سمح لهم أيضاً بالبقاء في السلطة وزيادة ثرواتهم. لكنه أدّى بدوره إلى ارتفاع مستويات اللامساواة وزيادة الإعتماد على المنظومة.
لقد تطلّب الأمر أزمة إقتصادية ومالية، وسنوات من سوء الإدارة العامة (في العام 2019، اجتمع مجلس الوزراء 20 مرة للإتفاق أخيراً على موازنة في الصيف الماضي!)، وإعتماد الحكومة على تدابير تقشفية غير مناسبة بشكل خاص لكسر الحلقة في النهاية. وهذا الأمر في الواقع يفتح نافذة تاريخية لإجراء تغييرات هيكلية، والتي صارت ضرورية لتجنّب الكارثة الإقتصادية التي يواجهها البلد، والسماح للبنان بالخروج من المأزق السياسي والإقتصادي الذي غرق فيه منذ نهاية الحرب الأهلية.
هناك بدائل من التقشّف لمعالجة أزمة الدين العام في لبنان. وهي تشمل التفاوض على شكل من أشكال تخفيف عبء الديون مع دائني البلد – غالبيتهم من البنوك اللبنانية التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالنخبة السياسية. ويشمل أيضاً زيادة الإيرادات المالية من خلال فرض ضريبة تصاعدية على الدخل والثروة.
في ما يتعلق بالضرائب، هناك طريق كبير للتحسين في لبنان. تعتمد الدولة اللبنانية في الغالب على فرض الضرائب على الإستهلاك. ومن المعروف أنها ضرائب تنازلية، إذ أنه يُفرَض القدر عينه من الضريبة على الجميع، بغض النظر عن مستوى دخل الفرد. ويُضاف إلى ذلك سوء أداء الدولة الشديد في تحصيل الضرائب، حيث تُمثّل عائدات الضرائب في لبنان 15 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، مقابل 35 في المئة في المتوسط في بلدان منظمة التعاون الإقتصادي والتنمية. كما أن نظام ضريبة الدخل الشخصي قديم وبائد. إنه يفرض ضرائب على كل مَصدَر للدخل بشكل مُنفصل، الأمر الذي يُقلّل من تصاعديتها وكذلك في المبلغ الإجمالي للضريبة المُحصَّلة. إن معدلات الضريبة المُطبَّقة على الأغنياء مٌنخفضة جداً وفقًا للمعايير الدولية – في المتوسط 21 في المئة في لبنان، مقابل 37 في المئة في الولايات المتحدة و45 في المئة في فرنسا. وتتمثل إحدى الأولويات الرئيسة في إصلاح النظام الضريبي بشكل جذري على جعله يعتمد في معظمه على الضرائب المباشرة، على عكس الضرائب غير المباشرة (ضريبة الإستهلاك)، وإنشاء ضريبة دخل عامة وتصاعدية على جميع مصادر الدخل (دخل العمل ورأس المال) .
للإنتقال من الدخل إلى الثروة هناك خيارٌ يتمثّل في فرض ضريبة استثنائية على رأس المال الخاص، وخصوصاً على العقارات. ومن المُحتمَل أن تُطبَّق هذه الضريبة على قاعدة كبيرة من الناس – رغم أننا لا نزال لا نملك تقديرات موثوقة لإجمالي رأس المال الخاص في لبنان. لقد مثّلت ثروة أصحاب المليارات اللبنانيين، رأس جبل الجليد، 20 في المئة من الدخل القومي في المتوسط بين العامين 2005 و2016، مقابل 2 في المئة في الصين، و5 في المئة في فرنسا، و10 في المئة في الولايات المتحدة. وهذا يقترح بأن مثل هذه الضريبة قد تزيد الإيرادات بشكل كبير في وقت قصير. إن الثروة في لبنان تأتي في الغالب من الريع غير الفعال. والتقليل من مصادره يعني تحسين رفاهية الكثيرين، بخاصة عندما نعرف أن عدم المساواة في الثروة هو السبب الرئيس لعدم المساواة في الدخل.
إن هذه المبالغ التي يتم جمعها يُمكنها أن تساعد على إضعاف الرعاية الطائفية والقيام بالإستثمارات اللازمة في البنية التحتية والتعليم والصحة. كما أن هذه التدابير الهيكلية يُمكنها أيضاً تلبية أهم مطلب للمتظاهرين: فرصة لتحقيق وتأمين مستقبل أفضل.
- ليديا أسود باحثة حائزة على منحة العريان في مركز كارنيغي للشرق الأوسط حيث يتمحور بحثها حول الاقتصاد العام والاقتصاد السياسي.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.