الهجوم على السفارة الإيرانية في دمشق هل يعني الحرب؟

سليمان حاكمي*

منذُ نهاية الحرب العالمية الثانية، تعرّضَت البعثاتُ الديبلوماسية في جميع أنحاء العالم للهجوم 800 مرة على الأقل، وفقًا للبيانات التي جمعها البروفِسور غابور كاجتار من جامعة “إيوتفوس لوراند” في المجر. وحتى وقت إطلاق الطائرات الإسرائيلية على ما يبدو صواريخ على مبنى القنصلية الإيرانية في العاصمة السورية يوم الإثنين الفائت، ما أسفر عن مقتل 11 شخصًا على الأقل، لم تكن أيٌّ من تلك الهجمات بشكلٍ مُباشَرٍ ومُتَعَمَّدٍ من قِبَلِ دولةٍ لم تكن في حالة حرب مع الدولة التي هاجمتها.

وكما قال أستاذ القانون البلجيكي توم رويس في بحثٍ نُشِرَ في العام 2021 في “المجلة الأوروبية للقانون الدولي” (European Journal of International Law): “يُمكِنُ للمَرءِ أن يتساءَلَ عمّا إذا كانت هناك في النهاية حالةٌ واحدة هاجمت فيها دولةٌ ما بشكلٍ مقصودٍ وعلنيٍّ المباني الديبلوماسية أو القنصلية لدولةٍ أخرى في غيابِ وعدم وجودِ صراعٍ مسلّحٍ مُستَمِرٍّ بين الطرفَين”.

تُعتَبَرُ السفاراتُ مساحاتٍ مُقَدَّسة في عالمِ العلاقات الدولية. وكانت فكرة استهداف إحداها بضربةٍ جويةٍ عسكرية غير واردة حتى الآن.

لماذا هذا مُهمٌّ ويعني؟ مع تعرّضِ البعثات الديبلوماسية للهجمات بشكلٍ مُتكرّر، فهل من المُهمِّ التمييز بين مَن يقوم بالهجوم، ولماذا؟

في القانون الدولي الإجابة هي نعم، والسبب هو أنَّ هذين العاملين (مَن ولماذا) يُحدّدان كيفَ يحقُّ للدولة التي تتعرّضُ للهجومِ أن ترد. ولم تُعلِن إسرائيل بعد مسؤوليتها عن الغارة الجوية التي وقعت يوم الاثنين، ولكن إذا ثبتَ أنّها نفّذَتها باستخدامِ قواتها الجوية، فربما نشهد، للمرة الأولى في التاريخ الحديث، مثالًا تَرتَكِبُ فيه دولةٌ ما عملًا عدوانيًا بهذه الطريقة. وبالتالي، ستكونُ هذه هي المرة الأولى في التاريخ الحديث التي يُوَفّرُ فيها الهجوم على السفارة مُبرِّرًا قانونيًا لحرب الدفاع عن النفس، إذا اتخذت إيران مثل هذه الخطوة ردًا على ذلك.

وسوف يناقش المحامون الدوليون ـ-في تل أبيب وطهران وأماكن أخرى- هذا الأمر الآن. ومن المرجّح أنَّ المحامين العسكريين في تل أبيب قد أخذوا في الاعتبار أصلًا الآثار والتداعيات المترتّبة على ذلك.

لا يبدو الأمرُ كما لو أنه لم تحاول أي دولة على الإطلاق تفعيلَ حقِّ الدفاع العسكري عن النفس ردًّا على هجومٍ على سفارتها. منذ العام 1945، لم تتمكّن سوى دولة واحدة من ذلك ــ الولايات المتحدة. وقد فعلت ذلك خمس مرات فقط (وهو عددٌ صغير، بالنظر إلى أنَّ أميركا هي الضحية في حوالي 20 في المئة من جميع الهجمات على البعثات الديبلوماسية).

ولكن في كلٍّ من تلك الحالات الخمس، كان المُعتَدي جهة فاعلة غير حكومية – إما جماعة إرهابية أو حشد غاضب، مما يعني عدم تحميل أي حكومة المسؤولية المباشرة. وردّت الولايات المتحدة بعملياتٍ عسكرية أو ضربات جوية على المنشآت التي اعتبرتها ساعدت في الهجمات، مُستَشهِدةً بالدفاع عن النفس في تقاريرها المُقدَّمة إلى مجلس الأمن الدولي. وفي جميع الحالات الخمس، لم يكن هناك إجماعٌ واضح -سواء بين الدول الأعضاء في الأمم المتحدة أو المحاكم الدولية- على أنَّ مُبَرِّرَ الدفاعِ عن النفس كان صحيحًا ومُحقًّا.

بين الباحثين القانونيين، فإنَّ مسألةَ ما إذا كان بإمكان الدول اتخاذ تدابير للدفاع عن النفس في أراضي دولة أخرى ردًّا على تصرّفات الجهات الفاعلة غير الحكومية هي مسألة مُثيرة للجدل وغامضة. منذ أحداث 11 ايلول (سبتمبر) 2001 و”الحرب على الإرهاب” التي قادتها الولايات المتحدة، كان هناك اتفاقٌ مُتزايدٌ على إمكانيّةِ اتّخاذِ مثل هذه الإجراءات، لكن القانون الدولي حول هذا الموضوع لم يتمّ تسويته بعد. عندما استهدفت الجهات الفاعلة غير الحكومية السفارات، في جميع الحالات باستثناء الحالات الخمس التي أثارتها الولايات المتحدة، تعاملت الدولُ المُتضرّرة معها على أنها مسائل ديبلوماسية أو جنائية – وليست أعمال حرب.

لكنَّ الأمرَ الثابت هو أنَّ الدفاعَ عن النفس له ما يبرّره عندما تُهاجِمُ دولةٌ دولةً أخرى. في الواقع، هذا هو المُبَرّرُ الوحيد المقبول عالميًا للدفاع عن النفس.

في القانون الدولي، المُصطَلَح التقني للهجوم الذي يؤدّي إلى الحق في الدفاع عن النفس هو ال”هجومُ المسلّح”. ومن المُثيرُ للدهشة أنه لا يوجد تعريفٌ شاملٌ لما يُشكّلُ بالضبط هجومًا مسلّحًا، ولكن من الثابت أنَّ الهجمات المسلّحة هي جُزءٌ فرعيٌّ من جريمةِ العدوان. وبالتالي، يتطلّعُ العديدُ من الباحثين إلى قرارِ الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3314 (1974)، الذي يُعَرّفُ “العدوان”، على سبيل المثال. ويشمل، من بين أمور أخرى، أيَّ هجومٍ من قبل القواتِ المسلحة لدولةٍ ما على أراضٍ أو قواتٍ مسلّحة لدولةٍ أخرى.

والأمرُ الأقلّ وضوحًا هو ما إذا كانت السفارات مشمولةً بهذا التعريف. يُجادِلُ الكثيرون بأنها ليست كذلك. وخلافًا للاعتقادِ الشائع، فإنَّ السفارات ليست من الناحية القانونية أرضًا فعلية للدولة التي تُمثّلها. فهي، بدلًا من ذلك، مبانٍ تتمتّعُ بامتيازاتٍ خاصة، تُعتَبَرُ “مَصونة” لا تُنتَهَك حُرمتها بموجب القانون الدولي. ومع ذلك، فإنَّ بعضَ الباحثين القانونيين البارزين ــوأبرزهم كريستوفر غرينوود، القاضي السابق في محكمة العدل الدوليةــ يُجادلُ بأنَّ السفارات هي “أجهزة الدولة” الشبيهة بالقوات المسلحة في هذا السياق، وبالتالي فإنَّ استهدافها من شأنه أن يُلبّي الهدف المُتمثّل في عتبةِ “الهجوم المسلح”.

وكما يشير البروفيسور رويس، فإنَّ حقيقةَ أنَّ الهجمات على السفارات لم تُذكَر صراحةً في القرار 3314 قد تكونُ في حدِّ ذاتها “نتيجةً لحقيقةِ أنَّ الدولَ لا تُهاجمُ سفاراتَ الدول الأخرى، وبالتالي فإنَّ واضعي تعريف العدوان لم يفعلوا أو لم يتوقّعوا ببساطة أن مثل هذا السيناريو يمكن أن يتحقق”.

وكما ذكرتُ سابقًا، لا شكَّ أنَّ محامي الحكومة الإيرانية يعدّون الحجج لهذا الغرض في الوقت الحالي. أما ما إذا كانت طهران قد اختارت استخدامها لتبريرِ الرد العسكري ضد إسرائيل فهي مسألة أخرى.

ينبغي لنا أن نأمل لا. إنَّ مثلَ هذا الردّ ستكون له عواقب مدمّرة في الشرق الأوسط الذي يُعاني أصلًا من أعمال العنف ــ بما في ذلك العنف الذي ترعاه إيران والذي يتمُّ تنفيذه في العديد من البلدان عبر وكلاءٍ مسلّحين. إذا كانت تصريحات الجيش الإسرائيلي السابقة حول هذا الموضوع يُمكِنُ الاسترشادُ بها، فمن المؤكّد أنَّ المحامين العسكريين الإسرائيليين قد أعدّوا بالفعل حججهم الخاصة مُستَشهِدين بهذه الحقيقة بالذات.

كان معظم الأشخاص الذين قتلوا في المهمة الإيرانية ــالأهداف الرئيسة للغارة الجوية يوم الاثنين ــ أعضاءً في الحرس الثوري الإسلامي الإيراني، الكيان المسؤول عن توجيهِ وكلاء إيران مثل “حزب الله” في الهجمات ضد إسرائيل. وحتى لو قاومت إسرائيل إعلان مسؤوليتها عن الغارة الجوية، فإن منطقها الداخلي سيكون أنَّ الضربة نفسها كانت بمثابةِ عملٍ من أعمالِ الدفاعِ عن النفس، وليست عدوانًا.

لكن من المُهم القول إن البعثات الديبلوماسية تُعتَبَرُ أهدافًا مدنية في سياق الحرب. حتى لو كان الشخص الموجود في داخلها عضوًا في جيشٍ مُعادٍ، فإنَّ استهدافَ السفارة من أجلِ قتلِ ذلك الشخص يُعَدُّ أمرًا غير قانوني بالتأكيد. وإذا كانت إسرائيل بالفعل وراء الهجوم، كما تشيرُ الأدلّة المُتاحة، فإنها بذلك تُعرِّضُ نفسها بوضوحٍ شديد لتُهَمِ العدوان، ومنحت إيران اليد العليا في تلبية العتبة القانونية للدفاع عن النفس.

وبصرفِ النظرِ عن قدرتها على إشعال الحرب، فإن الغارة الجوية في دمشق قد تؤدّي أيضًا إلى دقِّ إسفين بين إسرائيل وأقرب حلفائها، الولايات المتحدة. وعلى أقلِّ تقدير، فإنه يضع واشنطن في موقفٍ حرجٍ للغاية على الساحة الدولية. ولعل أميركا هي الدولة التي تؤيد أكثر من غيرها فكرةَ أنَّ “الهجوم على سفارة ما يُعتَبَرُ هجومًا على الدولة التي تُمثّلها”. وقد قالت وزارة الخارجية الأميركية ذلك، بهذه الكلمات بالضبط، في قسمٍ من موقعها الإلكتروني بعنوان “الديبلوماسية 101”. ومرةً أخرى، فإن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي اعتبرت أن مثل هذه الهجمات على مبانيها تستوفي عتبة الدفاع عن النفس ــ وأشهرها (ومن عجيب المفارقات الآن) عندما جادلت بشأن هذه النقطة أمام محكمة العدل الدولية في قضية قانونية بشأن كون سفارتها هوجمت في إيران.

في ورقته البحثية لعام 2021، وَصفَ البروفِسور رويس السيناريو الافتراضي المُتَمثّل في مهاجمةِ دولةٍ ما لسفارةِ دولةٍ أخرى بأنه حدث “البجعة السوداء” – أي شيءٌ لم نشهده من قبل يُمكِنُ أن يُبطِلَ جميع افتراضاتنا السابقة المَبنية على الخبرة السابقة. لقد افترضَ المجتمع الدولي لعقودٍ من الزمن أنَّ الهجمات على السفارات لا تؤّدّي إلى شنِّ حروب، لأنها حتى الآن لم تكن خطيرة بالدرجة الكافية ــمن الناحية القانونيةــ حتى تشعر الدولة المُتَضَرِّرة بأنَّ لها ما يُبرّرُ السير في هذا الطريق.

لكن الآن وصلت البجعة السوداء.

  • سليمان حاكمي هو مُحرّر صفحات الرأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى