سعر صرف الليرة اللبنانية: الحكاية الكاملة

بقلم البروفسور بيار الخوري*

لا يُمكن لنا أن نبدأَ بتحليلِ أزمة انهيار العملة اللبنانية فقط إعتباراً من شهر آب (أغسطس) 2019، حين أعلن حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، بداية أزمة شحّ الدولار، والتي على أثرها حصلت الإرتفاعات المُتتالية في السوق  لتخترق حاجز العشرة آلاف ليرة للدولار، ثم تُعاودُ الإنخفاض حتى المستوى الحالي، حيث تمّ حتى الآن اعتماد 4 أسعار للصرف في السوق اللبنانية لأول مرة في تاريخ هذا البلد الصغير، الذي طالما تميّز بحرية القطع الأجنبي.  

في الواقع تعود أزمة العملة الى تسعينات القرن الماضي. لنتذكّر مُقاربة استعادة النمو الإقتصادي وخطط إعادة الإعمار بعدما وضعت الحرب الاهلية أوزارها. كانت مُقاربة الرئيس الشهيد رفيق الحريري لتثبيت سعر صرف الليرة تقوم على استعادةِ ثقةٍ مُتهاوية لدى المُودِعين بالليرة والجمهور وبعد تفاقم ظاهرة البنوك المُتعثّرة مع نهاية الحرب.

لقد كان هذا أمراً مفهوماً  ومُبرَّراً إلى حدٍّ ما في ذلك الوقت، خصوصا بعد الإنهيار الواسع الذي حصل لليرة، حيث ناهز ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة 500 ضعف.  لكن مع عودة لبنان الى واجهة الصراع الإقليمي بعد تعثّر محاولات التسوية العربية-الإسرائيلية، تحوّل تثبيت سعر الصرف ليكون هو الأزمة بحد ذاته، لأن  سعر الصرف أساساً هو إحدى الأدوات الأساسية التي يجب أن يستخدمها صانعو السياسات في إطار وضع الاستراتيجيات الإقتصادية والمالية والنقدية.

في الواقع لقد تمّ تعطيل دور هذا السعر في النمو الاقتصادي، من خلال تثبيته لفترة تزيد على ربع قرن عند سعر ال1515 ليرة لكل دولار. ومن الطبيعي أن يُعطّل ذلك الأفق الإقتصادي للعديد من القطاعات الإقتصادية ذات الحساسية للكلفة المُرتفعة لسعر العملة للإقتراض والتصدير، وتحديداً القطاعات الصناعية المُختلفة والقطاعات الريادية التي كانت تحتاج إلى بيئةٍ مُناسبة لتثبيت أقدامها في السوق.

وما يجدر التوقّف عنده، أن سياسة تثبيت سعر الصرف تزاوجت دائماً مع المَيلِ إلى ارتفاع أسعار الفائدة في لبنان فوق أسعار الفائدة في المنطقة العربية، ناهيك عن هيكل الفوائد على العملات الرئيسة في العالم. .كما أن هناك مشكلةً أُخرى واجهها لبنان وتتمثّل بالفارق بين فائدة الإيداع وفائدة التسليف، والتي كانت دائماً بحدود 5 الى 6 نقاط. وهذا الفارق أدّى أيضاً إلى زيادةِ ضغطِ التمويل على الشركات .

وكانت المشكلة تكمنُ دائماً في المُقاربة الاستراتيجية للدور الذي يلعبه سعر الصرف في النمو الإقتصادي بسبب النموذج الإقتصادي الذي تمّ اعتماده، لأنه نموذجٌ قائم على فكرة شراء الوقت بانتظار ظروف أفضل، والذي تطلّب دائماً تعديل ميزان القوى ضمن الوحدات الإقتصادية لمصلحة الوحدات القادرة على تأمينٍ أسرع للتدفقات النقدية على حساب كلّ ما عداها.

من ناحيةٍ ثانية لعب احتكار المصارف التجارية لقنواتِ الأموال والتدفّقات النقدية في بيروت بشكل رئيس وللقطاع العقاري بشكل مُشتَق، دوراً في تفاقم هذه المشكلة. فلو كان جزءٌ رئيس من هذه الاموال يعمل من خلال البورصة وأسواق المال، لكان ذلك فتح آفاقاً أكبر للصناعات والمشاريع الريادية اللبنانية. بالإضافة إلى أن الإحتكار (المُشار إليه) وارتفاع هيكل أسعار الفائدة، قد عطّلا قيام بورصة كفوءة في بيروت. 

جاءت لحظةُ إعلان شحّ الدولار في بيروت في آب (أغسطس) 2019  فعلياً لتظهر على الملأ حجم الأزمة، لا لتُعلن أن هناك أزمة في بيروت. فالأزمة بدأت في تسعينات القرن الفائت وانفجرت في العام الماضي بسبب حجم الضغط الذي تعرّض له سعر صرف الدولار في لبنان على مدى عشرات السنين. هذا الإنفجار تحوّلَ إلى أزمة ثقة مُعَمَّمة من الجمهور والمُستثمرين والمؤسسات الدولية ومؤسسات التصنيف بالإدارة السياسية الفاسدة والبليدة لتأخذ أبعاداً ومفاعيل أكبر.

المسؤولية لا تتوقّف عند الجهات الآنفة الذكر، فالوجه الآخر لها يتمثّل – ومن دون أدنى شك –  بأداء وسلوك القيادة السياسية المُتعاقبة على السلطة، فأفرقاؤها كانوا يُدركون حجم المأزق الذي يتخبّط فيه لبنان، وبالتالي ما كان يجب عليها أن تتصرّف بهذه الخفة الإقتصادية، وما كان يجب أن تنزعَ إلى تشريعِ بُنية الفساد. وهو ما ساهم بشكل كبير في تآكل احتياطات لبنان الخارجية من ناحية، وفي زيادة الضغوط على البلاد تحت مسميات سياسية مختلفة من جهة أخرى. 

مما لا شك فيه، أن لحظةَ الحقيقة التي نعيشها اليوم يجب أن تُشكّل لدينا حافزاً حقيقياً إلى التفكير ملياً قبل رسم سياسة استراتيجية جديدة للعملة، من ضمن استراتيجية اقتصادية أكثر شمولاً، تقوم – وكشرطٍ أساس-  على عدم العودة إلى نظرية تثبيت سعر الصرف.

ولنتذكر أن لبنان قبل الحرب لم يعتمد هذه المقاربة بتاتاً، وبمعنى آخر فإن تحويل التثبيت النقدي الى سياسة ثابتة كان فعلياً من أجل شراءِ الوقت ورفاه المُتنفعين من السلطة. لقد انفجرت هذه العملية وذهبت معها كل منافعها المُفتَرَضة.

كل هذا، يدفعنا إلى القول إن  تحرير سعر الصرف اليوم يجب مُقاربته بضرورة تحسين الأداء الإقتصادي وتحسين الكفاءة الإقتصادية وهو شرط ضروري في أي مُقاربة للمستقبل الإقتصادي.

في الختام، لا بدّ من القول إن  تحرير سعر الصرف لا علاقة له بحماية الفئات الأكثر فقراً أو التوازن الإجتماعي في لبنان، فتلك مسألة لا علاقة لها من الأساس بسعر الصرف، بل بسياسات الدعم وشبكات الحماية الإجتماعية وسياسة الأجور. فالدعمُ منوطٌ بالسياسات الإجتماعية للدولة، أي بسياسة الضرائب وبسياسة الموازنة وبالسياسة المالية، ولا علاقة له بسعر الصرف. هذه حقيقة علمية ثابتة.

  • البروفسور بيار الخوري هو أكاديمي وباحث لبناني في الإقتصاد السياسي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى