من الخليج إلى مصر إلى تركيا وأميركا، القوى الأجنبية تلعب بالنار في السودان

لم ينجُ السودان من رياح الصراع العربي-العربي، ولا سيما ذلك النزاع الإقليمي بين الرياض وحلفائها من جهة والدوحة وداعميها من جهة أخرى. وهكذا قدمت السعودية، إلى جانب دولة الإمارات ومصر، دعماً كبيراً إلى الحكام العسكريين الجدد في الخرطوم، وحاولت احتواء تأثير الحركات السياسية في المنطقة، وخصوصا تلك التي ترى أنها تشكل تهديدًا لأنظمتها، وبصفة خاصة تنظيم “الإخوان المسلمين”. وقدمت الرياض وأبو ظبي مساعدة مالية للمجلس العسكري الإنتقالي كان في أمس الحاجة إليها، كما تعهدتا بتوفير ودائع مالية بقيمة 3 مليارات دولار لدعم الجنيه السوداني وتمويل واردات السلع الأساسية.
وعلى الجانب الآخر تقف تركيا وقطر حيث تقودان محوراً إسلامياً له أيضاً علاقات طويلة الأمد بالسودان.

الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي): الرجل القوي الجديد في السودان

بقلم ريتشارد داوني*

تسعى مجموعة من اللاعبين الأجانب إلى صياغة وتشكيل عملية الإنتقال السياسي غير المُكتَمِلة في السودان بعد سقوط الرئيس عمر البشير الذي حكم البلاد لفترة طويلة، حيث يدفع كلُّ لاعب منهم في الإتجاه الذي يُفضّله. وتعمل أجندات هؤلاء المُتنافسة على تعقيد المفاوضات بين المجلس العسكري الإنتقالي الحاكم والمدنيين في الحركة المؤيدة للديموقراطية التي تمثّلها “قوى الحرية والتغيير”. ومع ذلك، فقد توصّل الجانبان إلى اتفاق رئيس في 5 تموز (يوليو) الفائت لإدارة البلاد بطريقة مشتركة لفترة إنتقالية تؤدي إلى الحكم المدني بعد ثلاث سنوات. وكان هناك إختراق حديث في 4 آب (أغسطس)، حيث أنهيا إتفاق تموز (يوليو) ووضعا تفاصيله. ولكن، ينبغي القول أن عملية الإنتقال لا تزال هشّةً وعرضة للمُفسِدين.

إن مشاركة العديد من القوى الخارجية وتدخّلها في شؤون السودان تؤكّد على أهمية البلاد الاستراتيجية، ليس فقط بالنسبة إلى جيرانها الأفارقة ولكن إلى منطقة البحر الأحمر الأوسع والخليج العربي. ويكمن الخطر بالنسبة إلى السودان في أنه قد يتورّط في تنافسات جيوسياسية لا تخدم مصالحه الوطنية، والتي قد تُحطّم آمال مواطنيه في مستقبل سلمي وديموقراطي.

إن تحييد إهتمامات واستراتيجيات مختلف الجهات الفاعلة المتورّطة حالياً في السودان يشكّل تحدّياً، أولاً بسبب الطريقة الغامضة والمُبهَمة التي تعمل بها هذه القوى، وثانياً لأنها تسعى إلى تحقيق أهدافها الخاصة والمُتضاربة في الغالب. هناك مجموعة من دول الخليج وحلفائها تدعم المجلس العسكري – أو عناصر موجودة فيه – بما فيها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر. وفوق كل ذلك، فإن جداول أعمال هذه الحكومات تتناقض مع الديموقراطية. إنها تُقدّر ما تعتبره الإستقرار والأمن في السودان وتنظر غريزياً إلى الجيش باعتباره حليفها الطبيعي لتحقيق هذا الهدف.

من جهتهما ترغب الرياض وأبوظبي في إبقاء السودان مؤيّداً لأهداف سياستهما الخارجية الرئيسة في الخليج، وتحديداً لعزل كلٍّ من قطر ومنافستهما الرئيسة إيران، اللتين تتهمانهما بدعم الإرهاب، وتنفيذ الحرب ضد الحوثيين المتمردين المدعومين من طهران في اليمن. أنشأ كلٌّ من السعوديين والإماراتيين — أو هم بصدد التفاوض لإنشاء — موطىء قدم بحرياً وعسكرياً في القرن الإفريقي. وقد تم استخدام القاعدة الإماراتية في ميناء عصب في إريتريا لتدريب القوات، وتزويد المجهود الحربي في اليمن، وحتى شن العمليات العسكرية هناك. أما مصر، فإن الأولوية القصوى لديها هي أن يظل السودان مسيطراً على الإسلاميين الذين تربطهم صلات تاريخية ب”الإخوان المسلمين” الذين سيطروا لفترة قصيرة على السلطة في القاهرة بعد سقوط حسني مبارك، إلى أن أُطيح الرئيس محمد مرسي بانقلاب عسكري في العام 2013. الجنرال الذي قاد ذلك الانقلاب – الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي – يريد أيضاً جاراً جنوبياً مستقراً ومرناً ومطواعاً.

وتقف ضد هذا التحالف كل من قطر وتركيا وإيران، على الرغم من محدودية تدخل طهران في إفريقيا. وكانت قطر ردّت على خصومها الخليجيين، الذين فرضوا حصاراً عليها في العام 2017، من خلال تطوير بنية تحتية إستراتيجية في شرق إفريقيا. ففي العام 2018، وقّعت الدوحة صفقة لبناء ميناء للحاويات في السودان. كما توصلت تركيا إلى اتفاق مماثل قبل أشهر، وطورت علاقات ديبلوماسية وتجارية وإنسانية قوية في المنطقة.

من جهته، سعى السودان إلى لعب دور محايد في أزمة الخليج التي وضعت السعوديين والإماراتيين وشركائهما الإقليميين ضد قطر، والتي دفعت بحكومات الجانبين المُختَلفين إلى تقديم مساعدات مالية سخية لمعالجة الإنهيار الاقتصادي. في النهاية، يُعتقد أن فشل البشير في توجيه مسارٍ وسط بين خصومه الخليجيين قد لعب دوراً في قرار حكومات مصر والسعودية والإمارات العربية المتحدة بالتخلي عنه وقبول إقالته في نيسان (إبريل) الفائت.

وفي الوقت الذي تسعى هذه البلدان إلى تشكيل عملية التحوّل في السودان، فقد ركزت جميعها اهتمامها على الفريق محمد حمدان دقلو، المعروف باسم حميدتي، الذي برز، رغم كونه فقط نائب رئيس المجلس العسكري الإنتقالي، كوسيطٍ رئيس في البلاد. ويرأس حميدتي أقوى ذراع أمنية في السودان وهي “قوات الدعم السريع” شبه العسكرية، التي كانت تعمل منذ فترة طويلة كقوة عسكرية لتنفيذ أوامر البشير الوحشية. لقد حافظت على هذا الدور منذ الإطاحة به، وقتل أفرادها بشكل وحشي متظاهرين مؤيدين للديموقراطية في وسط الخرطوم في 3 حزيران (يونيو) الفائت.

تغلّب حميدتي على أصوله المتواضعة كأُمي راعٍ للجمال من المحيط الغربي لدارفور، وشكّل ميليشيا مُروِّعة ومُخيفة ساعدت على إبقاء البشير في السلطة، قبل أن ينقلب عليه في النهاية عندما بلغت الإحتجاجات المناهضة للحكومة ذروتها في بداية العام. لقد استخدم قوة ميليشياته النارية وروابط العشائر والثروة المستمدة من السيطرة على منجم الذهب الأكثر ربحاً في السودان لكسب النفوذ في المنطقة الأوسع. فقد قدّم مقاتلو “قوات الدعم السريع” إسهاماً حاسماً ومتواصلًا للتحالف السعودي في اليمن. كما أنه في تموز (يوليو) الفائت، وصلت المجموعة الأولى المؤلفة من 4000 عنصر من رجال الميليشيا التابعين ل”قوات الدعم السريع” إلى ليبيا لمساعدة الجنرال المنشق خليفة حفتر، الذي يتلقى الدعم من السعوديين والإماراتيين في هجومه ضد الحكومة المُعترَف بها دولياً في طرابلس.

محاولات حميدتي الديبلوماسية أوصلته إلى المملكة العربية السعودية في أيار (مايو) الفائت، حيث قابل ولي العهد الأمير محمد بن سلمان قبل أيام فقط من إطلاق “قوات الدعم السريع” النار على المتظاهرين المسالمين وقمعهم في شوارع الخرطوم. وعشية جولة أخرى من المحادثات بين المجلس العسكري والقادة المدنيين، زار حميدتي القاهرة، حيث أكد له الرئيس المصري السيسي دعم مصر الاستراتيجي لـ”الإستقرار والأمن” في السودان. كان السعوديون والإماراتيون منحوا في السابق دعماً مالياً حاسماً في بداية المرحلة الإنتقالية، حيث تعهدوا بإيداع 500 مليون دولار في البنك المركزي السوداني.

على النقيض من حميدتي، يفتقر ممثلو “قوى الحرية والتغيير” إلى شركاء يرغبون في تخصيص مبالغ مالية كبيرة لإنجاحهم. بدلاً من ذلك، فإن الدعم يأتيهم من المؤسسات الإفريقية والقوى الغربية. لقد وضع الإتحاد الأفريقي عضلات ديبلوماسية خلف مطالبة الحركة المؤيدة للديموقراطية بقيادة مدنية إنتقالية. كما لعب رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد علي دوراً نشطاً في جهود الوساطة. وبينما يُنظر إليه على أنه وسيط نزيه، فإن آبي أحمد يواجه تحديات وأزمات داخلية متعددة ينبغي أن يتعامل معها، ولا يٌمكن أن يُتوقع منه أن يتحمّل ويواصل الجهود رفيعة المستوى المطلوبة لرؤية إنتقال السودان إلى حكم ديموقراطي.

عزّزت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة دعمهما ل”قوى الحرية والتغيير” منذ مذبحة 3 حزيران (يونيو) ونسّقت أكثر مع السعوديين والإماراتيين لدفع شركائهما نحو اتفاق مستدام.

وبينما يواصل مختلف الديبلوماسيين عملهم، تبرز تطورات موازية لدورٍ مُفسِد غير مُفيد تُواصل بعض القوى الأجنبية لعبه في العملية الإنتقالية في السودان. فقد إتهم بعض الجهات قطر بدعم انقلاب إسلامي مزعوم في الخرطوم في 24 تموز (يوليو) والذي يبدو أنه قدّم ذريعة لحميدتي لشن حملة تطهير عسكرية لضباط كبار بارزين وشخصيات مرتبطة ب”حزب المؤتمر الوطني” التابع  للبشير. ومن غير الواضح ما إذا كان الإنقلاب حقيقياً أم غير مُكتمل، لكن أنشطة قطر في أماكن أخرى في المنطقة تُضفي مصداقية على اتهامات التدخل الأجنبي.

طوال تاريخه، كان السودان ضحية للتدخل الخارجي، كما كان يتدخل بدوره في كثير من الأحيان في شؤون جيرانه. لكن ما هو مختلف هذه المرة هو أن المخاطر في السودان هي أكبر، وأن مجموعة اللاعبين الخارجييين هي أوسع، وأهدافها تتعارض بشكل أوضح مع بعضها البعض. إن القوى الأجنبية تلعب بالنار في السودان، وعليها أن تُدرِك أنه إذا حاولت اللعب في مثل هذه اللحظة الحرجة في العملية الإنتقالية، فإن محاولاتها لتعزيز مستقبل مستقر يُمكن أن تساعد بدلاً من ذلك على دفع البلاد إلى حرب أهلية.

  • ريتشارد داوني زميل وباحث كبير في برنامج إفريقيا في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن.
  • كُتِب هذا الموضوع بالإنكليزية وعرّبه قسم الأبحاث والدراسات في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى