فلسفة البياض

بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*

كان القائد الإيطالي يشعر بالزهو وهو يشير بإصبعه نحو الأفق قائلاً: “هناك سنبني وطناً جديداً لأبنائنا … لا تقلقوا أيها الرفاق، فالمَدَد في الطريق إليكم، ولن تُهزَموا اليوم من قلّة”. لكن أحد الجنود المُتعَبين الذين لم يروا بأساً بالقعود عند التل في انتظار المَدَد رفع رأسه فجأة، وقال في صوت يُشبه الفحيح: “وماذا لو وجدناهم أكثر عدداً وأقوى عتاداً؟” وعندها أتته إجابة مباغتة من قائد الجند: “إطمئن يا صديقي، فلدينا سلاح أمضى من أي سلاح، يُدعى الراية البيضاء.”

والراية البيضاء سلاح بلا ذخيرة، يكفيك قصف  الطائرات المُغيرة ورصاص القنّاصة وهلع يوم الزحف، لكنه لن يعفيك من تنكيس الرأس والعَلَم وخفض الصوت حتى في أخمص بيتك بين أهلك وذويك. فهو يعني أنك لم تكن ندا كفؤاً، ولا محارباً جاداً، ولا رجلاً بحق وقت الشدائد. وهو يعني أن صوت الوطن بين جنبيك لم يكن أقوى من صوت إبليسك اللعين الذي حرّضك على الفرار منذ أول كرة.

سيُحدّثك الفرار من أرض المعركة عن حسابات الربح والخسارة، وعن أبجديات التسليم المُذلّ، وأن لكل راية وقتها، وأن اللون الأبيض لا يعني الإستسلام بالضرورة، فقد يُترجَم على أنه رغبة في الحوار المشروط، أو في إعادة النظر في معركة لا تُسمن ولا تُغني من خسارة. لكن تظل صورة الأيدي المُلوِّحة بالقطعة البيضاء عاراً لا تمحوه الخطب المُدبَّجة ولا التفاسير والتعاليل. ويُذكَر أن الرومان أول من عرفوا الإستسلام المُهين، فكانوا يضعون الرماح فوق رؤوسهم تارة، ويرفعون الخرق البيضاء أخرى رغبةً في الخروج من أرض المعركة بأي ثمن حتى وإن كان العار. الهزيمة هزيمة أيها السادة، وإن كانت تحت خرقة بيضاء، والمهانة مهانة وإن حمل أصحابها الرماح فوق رؤوسهم المتعبة.

لكن البياض ليس شراً كله، وإن كان تحت أسنّة الرماح. فقد رفعت فرنسا، وهي أكثر دول العالم خوضا للحروب، رايةً بيضاء في العصور الوسطى، لتعطي البياض إيحاءً مُختلفاً. حتى وهي تساعد ثوار أميركا ضد الإمبراطورية البريطانية، كانت ألويتها تحمل البياض تجنّباً للنيران الصديقة، وليس طمعاً في ترك الميدان بأقل الخسائر. كما كان البياض شعاراً لحكام بني أمية، والذين خاضوا تحت لوائه أشرس المعارك وأعتاها في تاريخ المسلمين داخلياً وخارجياً. كما اتخذت أخيراً جماعة قتالية في شرق العراق، موالية للأتراك ومدعومة من الأحزاب الإسلامية المناوئة للحكومة الحالية، الراية البيضاء شعاراً لعملياتها الحمراء الدموية.

لكن، ورغم كل هذا، تظل صورة القائد المهزوم الذي يلوح بخرقة بيضاء فوق جبهة معفرة يكسوها السواد والعرق والتراب تتسيَّد الذاكرة. ولن تفلح كل الإستثناءات التي ذكرنا، على أهميتها، في محو عار البياض وإن كان من مفكر كبير بحجم الفضاء، وهو يقف وسط أرض معركة لم يُحارب فيها كرجل، ليُنادي بإعادة التفكير في جدوى حربٍ فُرِضت عليه فرضاً ومن الأقطار كافة. للهزيمة أيضا عرّابوها، لكن التلويح بالبياض ليس أقل خيانة من الدخول في حروب غير مدروسة، لإلقاء الجنود في أتون محرقة الغزاة. وفي الحالتين، هي خيانةٌ لوطنٍ لم يُحسِن اختيار قادته أو المتحدثين نيابة عنه في مرحلة لا تحترم الضعفاء ولا تستمع لاستجداءاتهم المُخجلة.

نريد سلاماً أيها الناس، لكننا نرفض أن نُسمّي الإنبطاح تحت أقدام الغزاة من دون ضغطة واحدة على زناد الكرامة سلاماً. لطالما مزّقنا ملابسنا البيضاء ورفعناها فوق بنادق لم نُحسِن استخدامها، فما زادنا ذلك في التاريخ إلّا ذُلّاً ومهانة وضياعاً. ولطالما استبدلنا لغة الحوار بلغة انكسار لا تُخطئها عين مراقب، فاستهان بنا القريب الداني، واستخفّ بنا العدو المُتربّص. فلنُسَمِّ الأشياء بمسمّياتها إذن، ولنكفّ عن مهاتراتنا الفارغة، وعن إشغال شعوب المنطقة في حروب داخلية عابثة، ولنربط عصابة حمراء فوق رؤوسنا ولو مرة واحدة، لنصبح رجالاً جديرين بالحياة فوق أرض تضيق بأقدامنا اللاهية كل صباح.

وحين ننتصر، سنرفع البياض فوق بنادقنا ونلوح بكل خِرَقِنا البيضاء، إعلانا بالرغبة في السلام العادل، فقد أهلكتنا الحروب التي رفعنا فيها رايات بيضاء حتى بعد النصر. نريد أن ننتهي من حرب فُرضت على منطقتنا منذ عقود، فلا نحن خضناها بشرف، ولا دفع عنا البياض شرّها، أو خفف من ضرائبها غير العادلة. الهروب تحت وابل القصف ليس سلاماً أيها الراقصون على حلبات الكلام، والذهاب إلى عقر دار العدو أثناء الإشتباك ليس مفاوضة أيها الأذلّاء بالوراثة، والتلويح بالبياض فوق رؤوس أمة لم تحارب إلا ظلّها نوعٌ من التفريط والخيانة. تحتاج عيوننا إلى شمسٍ جديدة تُذيب شمع التدليس من فوق المُسمَّيات، لنرى الأبيض في لون العتمة ذلّاً لا يُمحى، وخيانة لا تُغتفَر.

  • عبد الرازق أحمد الشاعر أديب، كاتب وصحافي مصري. يُمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني التالي: Shaer129@me.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى