وسقط ملك القهوة

بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*

لا تحاول يا صديقي أن تَظهر بوجه غير الذي تبطنه أبداً، لأنك في هذه الحال تُقامر بصحّتك النفسية وتُغامر بما تبقّى لك من أنفاس في هذا العالم. فأعظم سبب للإنتحار – كما يرى علماء النفس – إرتداء الأقنعة بُغية الحصول على أكبر عددٍ من المُعجَبين سواء في البيت أو الجوار أو مكان العمل أو حتى وسائل المواصلات.
فهؤلاء الذين يَجمعون من الأقنعة أكثر مما يَجمعون من الثروات، يشعرون بما شعر به آدم الأول وحوّاء الوحيدة حين سقطا إلى الأرض أول مرة ونُزِع عنهما ما ووري من سوءاتهما، حين يفقدون احترام الناس وتقديرهم. فيقررون فجأة، وبدون مُقدّمات تُذكَر، إزهاق أنفسهم حتى لا يظهرون أمام الناس بوجوه سوداء مُجرَّدة من الألوان والمساحيق.
وهذا تحديداً ما يفعله إمام المسجد الذي يهتم بجبّته وقفطانه وعمامته أو راهب الدير الذي يهتم بالصليب الذي يتدلّى من رقبته واللحية التي تُغطّي جلّ وجهه، أكثر من اهتمامهما بتنقية الروح وتهذيبها وهما يقفان بين الناس ليذكراهم بالآخرة، وذلك حين يُضبَط أحدهما، أو كلاهما، مُتلبّساً بالفاحشة. وهو ما يفعله الزوج الطيب أو الأب المثالي حين تعلم زوجته ويدري أبناؤه بزواجه السري من فتاة في عمر ابنته. وهو ما يفعله الطالب الفاشل الذي ظلّ يُوهم والديه بأنه سيحصل على مجموع علامات يؤهله للإلتحاق بكلية الطب، فيحصل على مجموع لا يؤهله لتوزيع المحارم الورقية عند إشارات المرور. وهو تحديداً ما يدفع فاحش الثراء إلى الإنتحار حين يفقد ماله كله أو جلّه، فيفقد احترام سائقه القديم وعامل المصعد الكهربائي (الأسانسير) وموظف الإستقبال (الريسبشن). ففَقدُ المال ليس هو الطامة ولا فَقدُ الأسرة أو الوظيفة أو حتى الرسوب، فباستطاعة الإنسان أن يُعوِّض كل هذا إن شاء. لكن خوف الإنسان على وجهه المُصطَنع وملامحه غير الأصيلة، يجعله يحس إحساس قديس ضُبط في موضعٍ مُخلّ مع راهبة داخل صومعةٍ للتعبّد.
إجتاحتني كل هذه الأفكار وتلك التصوّرات فجأة حين علمت بنبأ إنتحار “في جي سيدهارتا” المعروف بملك القهوة والذي انتشله صيادان من ماء نهر “نيترافاثي” بالأمس. فلم يتعرّف عليه ذووه إلّا من حذائه وخاتمه. هذا الرجل الذي استطاع في فترة وجيزة للغاية أن يمتلك أكبر عدد من متاجر التجزئة والتي تبيع القهوة في شرق الهند وغربها، والذي استطاع أن يحول أكبر بلد مُنتج للشاي إلى بلد مُدمن على القهوة و”الكابوتشينو”. هذا الرجل الذي تجاوز ماله السائل ستة وثلاثين مليار روبية، ناهيك عن عشرة مليارات أخرى قيمة أصول ممتلكاته، لم يتحمّل عدم مقدرته على تسديد ضرائبه التي لم تتجاوز الثلاثة مليارات روبية، فقرر أن ينهي مشواره المضيء بسقطة أخيرة في أقرب نهر من مسقط نجاحه وتألقه.
كان باستطاعة الرجل، الذي اكتسب شهرة عالمية كأبرز رجال الأعمال في الهند وخارجها، أن يبيع بعضاً من أصوله ليُسدّد ديونه قصيرة الأمد، لكنه لم يتحمّل سقوط قناعٍ ظل يرتديه على مدار سنوات أمام العملاء والزبائن. لم يتحمّل أن يراه الناس فاشلاً لأن قناعه صار أكثر أهمية من ملامحه الأصيلة التي لم يرَها الناس أبداً.
سقط “سيدهارتا” في نهر نيترافاثي بالأمس، لكنه سقط قبل ذلك بسنوات، حين جعل أعين الناس أجدر بالرعاية من نفسه التي بين جنبيه، فهانت عليه نفسه حين سقط القماط من بين فخذيه وظهر على طبيعته البشرية لأول مرة، ليكتشف الناس أنه مجرد رجل أعمال ناجح، لكنه ليس مجنّحاً ولا نورانياً كما حاول أن يظهر دوما أمام بسطاء قريته الذين أغدق عليهم أمواله ولم يترك منهم فقيراً إلا وأغناه أو جائعاً إلّا وأطعمه.
فاحذر أيها القارئ الطيب أن تكون فريسة لعنكبوت التبجّح، ولا تدّعي أبداً ما ليس فيك. أخبر الجميع أنك لست قديساً، وأنك أقرب للخطأ منك إلى الصواب، وأنك ضعيف كفراشة، هشٌّ كشرنقة، وأنك لا تُجيد التصويب أو القنص أو الخروج سالماً من التجارب. حدّثهم عن ضعفك، ولا تتباهي بمواطن قوتك، وكن صريحاً من دون مُغالاة، متواضعاً من دون ذلّة، حتى لا تُغامر بروحك إن سقط عن وجهك القناع. فإن أصرّ الناس على اعتبارك قديساً ولووا رؤوسهم نحوك، فهذا شأنهم لا شأنك. فإذا جدّ الجدّ وسقط القماط، لن تجد نفسك مضطراً للذهاب منفرداً إلى أقرب نهر لتملأ رئتيك بطميه حتى الشهقة الأخيرة.

• عبد الرازق أحمد الشاعر هو أديب، كاتب وصحافي مصري. يُمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني التالي:
Shaer129@me.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى