جبران والرحابنة والجيش… والشعب العنيد

بقلم البروفسور بيار الخوري*

حلّ في اليوم الأول من آب (أغسطس) الجاري عيد الجيش اللبناني، الذي يحتفل به اللبنانيون بما يتجاوز الإحتفال الرسمي الى تظهير فيضٍ من المشاعر الشعبية التي لا نجدها في الأعياد الوطنية الاخرى كعيد الإستقلال.
اللبنانيون يختلفون في كل شيء تقريباً يتجاوز الإجماع الطائفي، ويختلفون ضمن هذا الإجماع أيضاً. اساليب الحياة، المفاهيم، السياسة، الدول الخارجية وقسّ على ذلك مئات الفروقات التي باتت تضع حتى فكرة الوطن موضع مساءلة وتشكيك.
في التاريخ اللبناني الحديث ثلاثة مُشتَرَكات لا خلاف حولها، وهي مُشترَكات عابرة للأديان والطوائف والمذاهب والهوى السياسي، وتتمثّل ب: جبران خليل جبران والرحابنة والجيش. والأخير فرض نفسه بقوة ضمن هذه الثلاثية بعد الحرب الأهلية وإحساس اللبنانيين أن لا ضمانة لهم من دون ضمان أمنهم. وقد تعزّزت هذه القناعة بعد اشتعال العالم العربي في العقد الراهن.
لجبران رسالة، وللرحابنة رسالة، وللجيش رسالة، ولكن هذه الرسالات ليست هي أسباب تَعلّق اللبنانيين وفخرهم بالظواهر الثلاث المذكورة. قلّةٌ من اللبنانيين قرأت جبران، وبعض ممن قرأه فهم مقاصد الأديب والفيلسوف التي ذهبت بعيداً في الثورة على القيم الإجتماعية، والموروث الثقافي والديني في ظل تحوّلها الى مؤسسات ذوات مصالح تبتعد من جوهر الدين. خليل الكافر ليست قصة شاب مُتمرِّد بل عبرة على ماذا تمرّد. قصة “النبي” هي فلسفة حياة تقوم على تعظيم الإنسان وسبر مكنوّنات الخالق فيه. إبن الله هو ابن الإنسان، وفي ذلك نظرة عميقة لتجسد شخصية المسيح ورسالته.
الفن الرحباني صَنَعَ هويةَ لبنان الذي خرج من الإستقلال، والبعض منه غير مُقتنع بالهوية الجديدة، وقبل تحديث مؤسسات الدولة مع العهد الشهابي اناط التاريخ بالرحابنة مهمة تحديث الثقافة وخلق هوية جامعة للدولة الفتية. كل ما فعله الرحابنة كان يصبّ في خلق عالم من القِيَم المؤسسة على حكايا مغناة ترسم وطناً أملَ الرحابنة ان يعيش في كنف القِيَم الكبيرة والكثيرة التي بثّها فنهم. هَزِئ الرحباني الأصغر (زياد) بالشعب العنيد بشبه إعلان لهذا العظيم، رغم تشاؤمه، عن خسارة مشروع الأهل.
مؤسسة الجيش تحمل شعاراً يحفظه اللبنانيون عن ظهر قلب: شرف، تضحية ووفاء. ربما ينظر اللبنانيون الى هذه المؤسسة بفخر لافتراضهم ان هذه القِيَم الثلاث محصورة بهذه المؤسسة فقط كما تميّز جبران بالثورة والتمرّد والرحانبة برسم الوطن الجميل.
افتراض الإختصاص والتميّز هذا يشي عن انفصام كبير. اذا كان هؤلاء عظماؤنا الذين نُجمِع عليهم، فكيف يكونون كذلك ونحن لا نشيه قِيَمهم؟ كيف نرفع هذا الثائر الى مصاف النبي ونحن خانعون؟ كيف نرفع الأدب والفن الرحباني الى ثقافة أمة لا نُمارسها؟ كيف نفتخر بشرف وتضحية ووفاء وهي ميزات تنقصنا؟
أحسنت مديرية التوجيه في الجيش اللبناني في حملتها الإعلامية في مناسبة العيد هذا العام بأن مزجت بعض التعابير بشعار الشرف والتضحية والوفاء. كأني بالمؤسسة التي ركّزت هذا العام على تطعيم الشعار بالازدهار والأمن والرفاه أن ترسل رسالة قوية الى المجتمع تقول: نعرف انكم تريدون الأمن والرفاه والإزدهار، لكن اعلموا ان هذه المزايا الثلاث (والتي يريدها كل شعب) لا تتحقق إلّا مع الشرف والتضحية والوفاء. عسى ان تصل الرسالة يوماً.

• البروفسور بيار الخوري هو أكاديمي وباحث لبناني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى