رقصٌ ولهوٌ وصراخ… بانتظار الصفعة الكبرى
بقلم البروفسور بيار الخوري*
منذ قرابة الشهرين كنت عائداً بالطائرة الى بيروت، وكانت كبيرة وممتلئة حتى آخر كرسي. وبانتظار الإقلاع صرخ راكب يرفع هاتفه الخلوي (المحمول): “فتّح صخر، فتّح صخر”، إشارة الى شقيق بطل مسلسل “الهيبة” التلفزيوني الذي عاد إليه نظره.
كان ذلك في اليومين اللذين أُقفِلَت خلالهما بيروت بالدواليب المُشتعلة، واعتصامات المتقاعدين، وربما إضراب موظفي مصرف لبنان (لا أذكر تماماً).
جُنّ مَن كان في الطائرة تماماً: رجالٌ ونساء، شيبةٌ وشباب، تصفيقٌ وصراخ ورقصات ودعوات لسيدة فيها وقار راجية من الشاب ان يطلب من جهاز الطائرة عرض ما يحدث على الشاشة الكبرى.
أعتقد أننا لم نكن لنرى ذلك لو لم تكن الطائرة آتية من اسطنبول، وربما كان المشهد سيتكرّر على طائرة آتية من شرم الشيخ. لأن كلاهما عيِّنتان صالحتان للسفر منخفض التكلفة لدى اللبنانيبن، وهما عيِّنتان صالحتان عن “الشعب اللبناني” الذي يسافر باستخدام بطاقة إئتمانٍ يعرف انه لن يكون قادراً على تصفيرها حتى بعد خمس سنوات.
يَمتهن معظم الشعب اللبناني لعب دور الضحية، خصوصاً حين يهاجم زعماءه ووزراءه ونوابه وحتى مرجعياته الدينية. ويفعل ذلك في تواطؤٍ مع الذات-ضد الذات.
هذا التواطؤ يخدم غرضين اساسيين لدى هؤلاء، أوّلهما تبرئة أنفسهم من دمٍ بلدهم، فهم غير راضين ومُعتَرِضون على ما يجري حولهم، بل “قرِفوا” البلد لدرجة انهم باتوا يتمثّلون بالكهرباء في سيريلنكا، ذلك البلد الذي إضطُهِد أبناؤه ثقافياً وجسدياً في لبنان… حتى الثمالة.
اما الغرض الثاني فهو التحضير المبكّر للتفاوض مع زعمائهم على طريقة “والله لو على قطع راسي، لن أنتخب مرة اخرى” او “حتى الحمار بيدقّ (يرتطم) مرة واحدة”. وهذا يرفع الإستعداد النفسي للتفاوض لحظة الإنتخاب. فحتّى أولئك المُلتَزِمون مع أحزابهم، والّذين يندر ان ينتقدوا زعماءهم علناً، فهم دائماً أصحاب مطالب في ظل نظام الزبائنية تأتي أيضاً في لحظة الإنتخاب او لحظاتٍ شبيهة. ومسكُ الختام تعبير:” لا لا دخيلك انا ما بحب السياسة”.
يتكّرر المشهد مع الممثل التركي، بوراك أوزجفيت، الزائر لافتتاح دكّانٍ يبيعُ ألبسة تركيّة ايضاً. يُغمى على الناس في لحظة التزاحم للمس الأيقونة التركية. بكاءٌ وعويل في لحظة إلتقاط “السلفي” بعد طول معاناة ليصلوا الى ذلك المشهد الذي يختصر طموحات شعب فَهِمَ خطأً كلمة طموح. يأتي ذلك مترافقاً مع احداث في منطقة لبنانية كان من الممكن ان تُعيدنا ٣٦ عاماً غوصاً في ماضينا الاليم (طبعاً سيتساءل الكثيرون، بخاصة من جيل الشباب عما حصل منذ ٣٦ عاماً، وهذا ايضاً جزءٌ من مأساتنا).
مشهدّ اختصره الكاتب روني ألفا بصورة رائعة: “شعبٌ لبناني بغالبيَّتِه السّاحِقَة مَحصورٌ في محَلّ ملابِس. داخِل “مول”. يَبكي مُهسَتراً بانتِظار إلهٍ من وَرَق وقائِدٍ من أوهام.”
وآخر المآسي هي موجة المسخرة و”التَرْيَقَة” على النائب ديما جمالي. لم يبقَ مواطنٌ لم يدلُ بفكاهته المأسوية، اصبح الشعب في ضُحى ليلة خبير بتركيب الأسماء و”لوكها” مع ضحكات “الإيموجي” التي لم تعد تليق إلاّ بشعوبٍ تُشبهنا. طبعاً لا يعرف معظمنا مُطلِق هذه اللعبة يوم كان للكوميديا معنى كبير، وقبل ان نصبح نحنُ الكوميديا: زياد الرحباني و”ياسر عرفات حجازي”.
شعبنا يتحضّر للكفّ الكبير، الكفّ “المُحرِز”، الذي قد يؤلمنا لمئة عامٍ مقبلة. المشكلة ليست في أننا نهرب من الكفٍ الى الهزل، المشكلة اننا نتعاطى بهزلٍ مع هذا الإحتمال: “هيدا لبنان من أوّلتو لليوم”. حافظوا على هذا الهزل جيداً، سيأتي وقع الكفٍ أقوى.
على وقع التحذير من ارتطام “التايتانيك” وتقارير المؤسسات الدولية، وآخر نسخة من العقوبات الأميركية وغليان الوضع في هرمز، لا يسعني إلاّ ان أتذكر إنهيار إقتصاد الأرجنتين وإفلاس تلك البلاد في العام ٢٠٠١. فقبل الصباح الكارثي، كانت المطاعم والمقاهي والمرابع الليلية والمسارح وراقصو الشوارع يملأون بيونس ايريس حتى الفجر. كان كل شيء يشي بروعة هذا النموذج السياحي الخدماتي… حتى صباح اليوم التالي. أين نحن من تلك الليلة؟
• البروفسور بيار الخوري، اكاديمي وباحث لبناني